منذ ما يزيد على قرن من الزمان، في ذلك الحين، كان الأدب الأميركي قد استقل عن الأدب الانكليزي، وراحت الروايات الأميركية تنهل من مواضيع أميركية خالصة، بل أحياناً من مواضيع لا تتورع عن المجاهرة بعدائها للامبراطورية القديمة المستعمرة للعالم الجديد، وعن الدفاع عن قيم جديدة لا علاقة لها بأوروبا من قريب او من بعيد. ومع هذا كان الفرنسي الكسي دي توكفيل قد أكد بأن التيار سيسير عكسياً وستلتقي آداب العالم القديم بآداب العالم الجديد، خارج اطار التناحرات القارية والحضارية. واذا كانت بدايات القرن العشرين قد حولت توقع توكفيل هذا الى حقيقة ملموسة يمكن ايراد عشرات الامثلة عليها، ولا سيما عبر كتّاب اميركيين ومبدعين آخرين اختاروا "العودة" الى أوروبا بعد قطيعة، وعبر تحول نيويورك اواسط القرن العشرين الى عاصمة حقيقية للثقافة الأوروبية، فإن في امكاننا ان نعود بهذا التيار الى نهايات القرن التاسع عشر، والتوقف عند اسم هنري جيمس. فجيمس الذي كان ابناً لكاتب يحمل الاسم نفسه، وشقيق لفيلسوف البراغماتية الكبير ويليام موريس، كرس العدد الأكبر والأهم من روايته ل"رمي جسر بين العالمين القديم والجديد"، بل انه "بالغ" في هذا الى حد ان شقيقه ويليام نبهه ذات مرة الى ان عليه "ان يأخذ في حسبانه، وفي شكل افضل رأي القراء الأميركيين الذين يرتبط بهم مصير النجاح النهائي لمشروعه الأدبي". لكن هنري جيمس لم يعمل بنصيحة أخيه. ولو عمل بها، لما كان أنتج في الحقيقة، بعض أهم أعماله، تلك الاعمال التي كان موضوعها وفي شكل محدود، العلاقة الكأداء والمعقدة بين أميركا وأوروبا - عموماً - وانكلترا خصوصاً. ومع هذا فإن نظرة هنري جيمس الى الأمر برمته لم تكن دائماً على نفس السوية. بل كان فيها طلعات ونزلات. فهو تارة منتقد للأميركيين من وجهة نظر أوروبية، وطوراً منتقد للأوروبيين وبقسوة من وجهة نظر أميركية. ولعل هنري جيمس كان - في نهاية الأمر - لا يعبر في هذا كله عن موقف شخصي، بقدر ما كان يعبر، حقاً، عما كان سائداً في النظرات المتبادلة بين العالمين. وحسبنا للتيقن من هذا ان نقارن بين رواية مبكرة لجيمس هي "الأميركي" 1877 وبين روايات متأخرة له مثل "السفراء" او "البوسطونيات". لقد كتب هنري جيمس خلال حياته الطويلة نسبياً، نحو مئة نص أدبي، بين رواية طويلة ورواية قصيرة وما الى ذلك. ومعظم اعمال هنري جيمس نال اعجاب كبار كتاب زمنه ونقاده... وحتى في ايامنا هذه ها هي اعماله تنال حظوة واعجاباً، ولا سيما حين تحوّل الى افلام سينمائية خاصة من قبل جيمس الفوري، الذي هو مثله اميركي اختار التوجه غالباً الى أوروبا، ولكن للتعبير عن نظرة الاميركيين اليها. ومع هذا، على رغم وفرة اعمال هنري جيمس فإن النقاد الكبار يتوقفون عادة للتدليل على عظمة انجازه الروائي، عند اربعة أعمال كبيرة لها، وفي مقدمها "صورة امرأة" اما الثلاث الكبيرة الاخرى فهي "أجنحة اليمامة" 1902 و"السفراء" 1903 و"كأس الذهب" 1904. وهذه الروايات كلها، التي كتبها هنري جيمس في فترة نضوجه بالتأكيد، ذات علاقة بأوروبا، أو على الأقل بالنظرات المتقاطعة بين أميركا وأوروبا. وتتوقف هنا عند "صورة امرأة". هذه الرواية، وهي الأشهر قاطبة بين أعمال هنري جيمس نشرت للمرة الأولى في العام 1881، ومنذ نشرها المبكر هذا اجمع الدارسون على انها - عكس أعمال جيمس الكبرى الأخرى - تحمل الكثير من التنازلات "لكي يمكن وصولها الى الجمهور العريض" ومع هذا فإن هذه التنازلات لم تفقدها ابداً لا سحرها ولا قوتها، على رغم مرور الزمن. وربما يعود هذا في شكل يحمل كل تناقضاته الى صعوبة ادراك جوهر موضوعها منذ القراءة الأولى. ذلك ان الموضوع الاساس ل"صورة امرأة" انما هو "اغتصاب حرية الاختيار لدى شابة أميركية تقع ضحية شخصين أوروبيين فاسدين يرمزان الى العالم القديم". وهو موضوع تعرف ان هنري جيمس سيعود الى معاكسته - متخلياً عن هذه النظرة المرتابة الى العالم القديم - في اعمال لاحقة. اما هنا في "صورة امرأة" فكان لا يزال متمسكاً بتلك التقاليد الفكرية الاميركية التي ترى في سلوك اوروبا شراً ما بعده من شر. ان موضوع القاعدة والحرية هو الموضوع الاساس المهيمن على هذا العمل. فكيف عبر هنري جيمس عن موضوعه هذا؟ بكل بساطة عبر حكاية ايزابيل آرشر الاميركية الحسناء والتي كانت تعيش في بيتها الكئيب في مدينة آلباني الاميركية حيث تأتي خالتها الثرية والمنفتحة على الحياة مدام توشيت لتقترح عليها مرافقتها في جولة أوروبية. فتقبل ايزابيل خاصة وأن هذا السفر سيتيح لها التخلص من الحاح الشاب غودوود المغرم بها، لكنها، هي، لا تريد ان تضحي بحريتها من اجله. وتكون انكلترا اول محطة في الجولة حيث تقيم ايزابيل مع خالتها في منزل فخم يحتضر فيه زوج هذه الاخيرة وفي رفقته ابنه رالف الذكي والجذاب الذي تتنبه اليه ايزابيل ويبادلها هو الاهتمام ولكن من دون ان يقول لها انه هو الآخر مصاب بمرض قاتل. وفي الوقت نفسه يغرم شاب ثري آخر هو اللورد واربورتون باليزابيث، لكن هذه، على رغم رضاها عما يحصل لها، ترفضه لأنها تريد ان تكمل جولتها الأوروبية قبل اي ارتباط. وحين يموت السيد توشيت ترث ايزابيل نصف ثروته غير دارية ان هذا كان بتدبير من رالف نفسه الذي اراد لها ان تعيش حياة عريقة. لكن هذه الثروة المفاجئة بدلاً من ان تسعد ايزابيل، سرعان ما توقعها في حبائل سيدة تدعى ميزل، تعيش من التعب والمغامرات. والسيدة ميرل لكي تستولي على ثروة ايزابيل الجديدة، ترتب لها لقاء وعلاقة مع المدعو جيلبرت اوزموند، وهو ليس في حقيقة امره سوى عشيق السيدة ميرل. واذ يتقدم هذا المغامر الأفاق من ايزابيل تحت سمات نبيلة خادعة، تغرم به هي التي لم تغرم من قبل بكل النبلاء الحقيقيين الذين تقدموا اليها. وهكذا يصيبها عمى الروح وتشعر بانجذاب هائل نحو جيلبرت. وهو انجذاب تعززه السيدة ميرل بتواطؤ يصل الى حدود الاغتصاب والتأثير السحري. واذ تقع ايزابيل في الفخ، تقبل عرض جيلبرت اوزموند بالزواج، على رغم تنبيهات السيدة توشيت وابنها رالف... وبعد الزواج تكتشف ايزابيل بسرعة خطأها، لكن الأوان كان قد فات... كذلك فإن كبرياءها منعها من الاقرار بالخطأ. ومع هذا حين تجابه رالف وهو على فراش الموت اخيراً، تعترف له بأنها قد أخطأت في اختيارها. واذ تتوجه بعد ذلك الى لندن بائسة محطمة، تلتقي هناك بعاشقها القديم غودوود، لكن اللقاء لا يثمر شيئاً اذ انها ترفض ترك اوزموند، على رغم كل ما اصابها، وتعود اليه صاغرة مستسلمة وهي غارقة في بؤس ما بعده بؤس. من المؤكد ان هنري جيمس 1843-1916 لم يختر هوية شخصياته على سبيل الصدفة. فأن يكون المغتصبان، السيدة ميرل وجيلبرت اوزموند، اوروبيين وأن تكون ايزابيل أميركية، أمر لا يمكن الاستهانة به من لدن كاتب اثر ان يجعل من قلمه جسراً بين العالمين. غير ان الصورة المنحطة التي يرسمها لأوروبا هنا، من خلال الشخصين الفاسدين، ستتعدل لاحقاً لصالح صور اكثر دقة وحذراً. والمهم هنا ان كل شيء يبدو واضحاً للقارئ منذ البداية: كل ما في الأمر ان ايزابيل هي المذنبة، لأن عمى قلبها جعلها لا ترى ما يحاك لها و"الاغتصاب" الذهني الذي تتعرّض له: ان ايزابيل حرة في قول ما تشاء. ولكن ليس حين تغتصب وتجبر على ان تريد ما يريده مغتصبوها. وايزابيل في هذا، تشبه على اية حال، العديد من الشخصيات الأخرى الخاضعة لارادة خارجية، والتي تملأ روايات هنري جيمس. ولكن نادراً ما كانت أوروبا ممثلة بمثل هذا السوء. مهما يكن فإن هنري جيمس عاد وعانق أوروبا أكثر وأكثر خلال العقود التالية، بل وصل لاحقاً الى حد التخلي عن جنسيته الأميركية ابان الحرب العالمية الأولى احتجاجاً على تباطؤ أميركا في خوضها.