في السادس والعشرين من شهر نوفمبر العام 1965، قام الفنّان الألماني جوزيف بويز (1921-1985) بتقديم عمل فني بعنوان "كيفية شرح اللوحات لأرنب ميت" في مدينة دوسلدورف، بحيث ظلّ الفنان على مدى ثلاث ساعات يحمل أرنباً ميتاً ويتنقّل به في أرجاء المعرض متمتماً في أذنه بشروحات عن اللوحات المعلّقة. العرض الصّادم الذي صنّفه الفنان ضمن النزعة التجريبية التي تقوم على الخروج من اللوحة الزيتية "الصالونية" صوب أعمال الفيديو والتنصيبات وغيرها، كان واحداً من العروض المشابهة التي بدأت بالانتشار قبلها بسنوات، والتي قادت الفن مباشرة إلى الموت على رأي بعضهم، فالعرض رغم احتفاء الحداثيين به، إلاّ أنّه أثار اشمئزاز الكثيرين. أمّا نادرة النّوادر فقد حدثت حين قامت عاملة التنظيف على تكنيس القطع الفنية التي اجتهد جوزيف بويز في وضعها وتوزيعها في زوايا قاعة العرض، جمعت كل شيء ورمته بكل أمانة مع القمامة في سلة المهملات. إنّ الذي يصيبنا في معارض الفن المعاصر هو خواء الأعمال المقدّمة من الجماليات وفق المفهوم الكلاسيكي، في الحقيقة لا شيء يبهرنا في جمع أشياء من القمامة وتكديسها، أو في خلط الألوان بطريقة فوضوية على قطعة قماش، مع أن الفنان يحاول جاهداً ترجمة أشيائه تلك على أنها نوعٌ من إعادة التدوير ولفت الأنظار إلى أهمية كل الأشياء التي قد تبدو مجرّد قمامة لكثيرين. لقد حاول الفن الحداثي أن يعيد قراءة كل ما تقع عليه العين، فنظّم معارض للتوابيت في محاولة لتلطيف معنى الموت، وأخرى للجثث في محاولة لرفض الحروب وعمليات القتل، وكثيرة هي المعارض التي يقف الإنسان فيها حائراً عن فهم غايتها إذا لم يقم منظِّموها بشرح تفاصيلها بأنفسهم. هذا التحوّل الكبير في الفنون يعيده أهل الاختصاص إلى أول ظهور لعرض غريب تمثل في نافورة مارسيل دوشامب العام 1917، وهو واحد من فناني الحركة الدادائية، ونافورته هذه أثارت جدلاً واسعاً، لأنها في الأصل ليست أكثر من "مبولة خزفية" قلَبها الفنان ووضع عليها توقيعه ولهذا السبب تم رفض عرض العمل رغم دفع رسوم الاشتراك، والأمر لم يتوقف هنا، بل فُتح سجال كبير حول هذا العمل، ووفقاً لكاتب سيرة دوشامب كالفن تومكينز فإن "النّافورة" فُقِدت بعد عرضها الأول ولا احتمال آخر لمصيرها غير أنها رميت في القمامة! لكن دوشامب استنسخ منها عدة نسخ تم عرضها في معارض أخرى وقام بالإدلاء بتصاريح استفزازية جعلت من العمل منعرجاً مهماً لطرح الأفكار أكثر منه عملاً جميلاً للتأمُّل. ابتعد الفن اليوم عن "الحقيقة المثالية" التي كان يصبو إليها في حقبات سابقة، ويجد الفنانون تبريرات لأعمالهم الصادمة هذه على أنها جزء لا يتجزّأ عن واقعنا المتناقض. الفصل الأغرب في تاريخ هذه الإبداعات هو أن بعضها يباع بمبالغ خرافية أو يذهب إلى القمامة.