يتميز كتاب"أوهام الفن المعاصر"بمنهجية مؤلفته المؤرخة والناقدة كريستين سورجين، مقدار تميزه بدقة وفضائحية المعلومات بالغة الخطورة التي يعانقها. نرى هنا ارقاماً مذهلة تثبيت فساد طرق اشاعة وتسويق البدائل المفتعلة للوحة والمنحوتة على صعيد مؤسسات كاملة، مثل تشجيع الهواة من دعاة فن"الإنشاءات"وپ"البرفورمانس"وپ"المفاهيمية"التي تضع المفهوم في موقع الافضلية على المادة المهنية. او"الدادائية المحدثة"او"اللاند آرت"الى آخر قائمة التيارات البهلوانية التي تكاد اليوم تقضي على أنفاس الفن التشكيلي، وذلك بطرده من باريس الى المدن الاخرى او الريف، من أبلغ الامثلة: فضح الموازنة السرية غير المعلنة لمشتريات متحف الفن المعاصر في"مركز بومبيدو"ص 108. وأن المواطن الفرنسي يدفع 75 يورو لموازنة الفنون مقابل ستة يورو في الولاياتالمتحدة ص 99. تتحدث المؤلفة عن دولة الهدر الفنية"وبيروقراطية"الحماس الملتبس للفن المعاصر، وهنا تقع أهمية الكتاب. تكشف انه في مقابل 20 ألف فنان في فرنسا هناك 26 ألف موظف بيروقراطي يديرون المؤسسات الفنية الرسمية في وزارة الثقافة وسواها. ص 114 هو ما يفسر محاولة التعتيم الاعلامي على الكتاب على اهميته منذ صدوره عن دار"لا تابل روند"في نهاية سنة 2005، ثم حجم الضجة التي سببها في الاشهر الاخيرة ونفاده من المكتبات. تقول المؤلفة انها تقبل نصيحة جان كوكتو في عدم"التواطؤ مع الصمت العام"، وهي لا تنفرد بشهادتها المنذرة بالخطر، اذ سبقها كتّاب ونقاد حشدت كتبهم في هوامش الاحالات، مخصصة سطرين عن الفن العربي ص 55 باعتباره متواضع الحساسية بين الاصوات المنذرة"بخطر ما بعد الحداثة". ترى ان ازمة التسعينات، جعلت من الفن قيمة نسبية لا تملك أي ضوابط سوى الجدة وفوضى الخروج عن تاريخ الفن، وهذا يعود الى عقود والى ظاهرة مارسيل دوشامب وعبثية"الدادائية"عند بداية القرن العشرين، وبالذات منذ تاريخ بيع دو شامب في نيويورك مبولة دخلت المتاحف وظل يبيع نسخها حتى عام 1922! تنطلق أطروحة الكتاب بمصطلحات نخبوية بالغة الاختصاص من التفريق الحاسم بين السياق المفتعل"للفن المعاصر"الذي زوّر تاريخ الفن ابتداء من 1960 في نيويورك خصوصاً من خلال الرمز السابق الذكر الدادائي مارسيل دوشامب 1887 - 1968 والرمز المعاصر له في باريس وهو بابلو بيكاسو 1881 - 1973 ممثل السياق الطبيعي في"الفن الحديث". ثم بغلبة الطرف الاول على الثاني من خلال الاجتياح المؤسساتي وذلك باستبدال ذاكرة التراكم في اللوحة والمنحوتة بوسائط فوضوية تمجد بعضها الصناعة والشركات التجارية، وذلك بعرض عناصر استهلاكية جاهزة دعاها مارسيل دوشامب Ready-Made. تذكر انه اشترى عام 1917 من شركة الپ"BHV"حمالة زجاجات مشيرة الى التحالف المضمر بين دعاته والمؤسسات المالية. ثم خلط الهواة بالمحترفين يدعي"بويز"ان"كل انسان فنان"فيسقط بذلك نخبوية الموهبة والتدريب، ثم خلط انواع الفنون بطريقة سياحية، فيختلط التصوير والنحت بالعمارة والمسرح والسينما والصور المعلوماتية، متحولاً الى طقوس تهجينية غثيانية، تجعل من العبث والفوضى والاستفزاز والتقزز حتى حدود السادية هدفاً تحريضياً، حيث تحولت الى طقوس"تدميرية"لشتى القيم التراكمية في الفن وتراثه منذ"عصر الكهوف"، تقول الناقدة انه"فن القطيعة مع الفن"والذي جعل من غياب القيمة هدفاً بحد ذاته حتى اصبح"الغياب العدمي"بحد ذاته قيمة نسبية معادية للفن"وحضوره"الجمالي. ترسخ الكاتبة بأمثلة محسوسة تعارض همجية"الاقلية"التي تدعي احتكار"المعاصرة"وپ"الاكثرية"التي تمثل"السياق الطبيعي"في"الفن الحديث". تسترجع ثمانينات تيارات"التشخيصية المحدثة"او"التشخيصية الحرة"التي أثمرت تجارب اصيلة مع غاروست وكومباس، والدور السلبي"لمركز بومبيدو"في الفترة نفسها، بانحيازه الاعمى المطلق مثل بقية المؤسسات لطرف الاقلية الممثلة للفن المعاصر. تذكر مثلاً ما خفي من الصراعات بين المجلات المختصة كما هو بين مجلة"البوزار"المنحازة بدورها للطرف الاول، ومجلة"أسبري"التي تنبه الى خطورة هذا التقويم القسري المفتعل، والى خطورة بعض المعارض، كان آخرها معرض"التصوير جريمة"في متحف اللوفر عام 2002. كما تذكّر بالتحالفات بين المؤسسات الرسمية وكبار صالات العرض والشركات والبنوك وأصحاب المجموعات، بحيث توحدت قوة هذه الشبكة بين نيويورك التي تمثل نصف سوق الفن العالمي وباريس، وغيرهما من"المونوبولات"المركزية الى ان اصبحت"المقولات المفاهيمية قادرة على تحويل المزابل الى مقدسات"ص 211. ان الفارق برأيها بين ما يسمى"بالفن المعاصر"بترهاته وادعاءاته التي تلغي التواصل مع أي خبرة سابقة من جهة وما يُعرف"بالفن الحديث"من جهة اخرى. يكمن في ان الاول يتصيد"الآني"وراهنية الصدمة التي تُستهلك بسرعة. لذا تحول الى صرعات عابرة. تذكر كيف يعبث الفنانان المعروفان في لندن جلبرت وجورج بقدسية الموت من خلال فيديو عن زوجين يغرقان في الدم والبول.