وتسأَلُني إِن كان ما أَرشَدتُكَ إِليه في الحلقة السابقة (الخميس الماضي: "الرياض" 5/5/2022) حول اللغة ومفاتيح الكتابة ينطبق لديكَ على الشعر والنثر معًا. جوابي أَنه طبعًا ينطبق، مع فوارق شكلية (لا مضمونية) أُفصِّلُها لكَ في هذه الحلقة. الشعر والنثر رافدان أَساسيان من نهر اللغة الواحد. يفْصل بينهما، شَكلًا، أَنَّ الشعر تضْبطه نُظُمُ العروض تفعيلاتٍ وبحورًا وأَوزانًا، فيما النثر منسرح لا تضبطه سوى قواعد اللغة. مضمونًا، الأَمر ذاته ينطبق على كلَيهما معًا. فالشكل هو الثوب، أَما المضمون فهو الجسد أَفكارًا وهدَفًا ورسالة. ومثلما تبدِّل ثوبَك بين هذا أَو ذاك، كذلك تُبدِّل كتابتك بين أَن تُسرِّحها نثرًا أَو تضبُطَها شعرًا. ويبقى الجسد واحدًا في استخدامكَ له أَرقى الأَفكار وأَسمى الأَهداف لأَفضل رسالة. وإِذا كانت المباغتة الجميلة والدهشة العذبة واستخدام غير المتوقَّع من مفاتيح الجماليا في الأَدب، فهي تنطبق على كلِّ ما تكتبه، شعرًا صُغْتَه أَو نثرًا. سرُّ المباغتة أَن تأْتي بلفظتَين متجاورتَين ليس مأَلوفًا في العادة تجاوُرُهما، فتُباغتَ قارئَكَ بما لا يتوقَّعه حين يبلغ عبارتك وما يليها أَو يجاورها، وتكسر لديه المتتاليات الذهنية المعتادة فيما يقرأُ نصَّك، وهذا ما يولِّد لديه المباغتة فيدرك من نصِّك أَنه أَمام أَديب مُغاير، ويروحُ بعدها يتتبَّع نصوصكَ على أَنك مجدِّد في الأَدب، شعرِه كما النثر. هكذا: تكون وضعتَ مفاتيح اللغة في خدمة النص، بينما يغلب لدى كثيرين من الكتَّاب أَن يجعلوا النص في خدمة اللغة فيُفرغوه من مضمونه كي يُبْرزُوا أُلعبانيّاتٍ لفظيةً باردةً لا مدًى أَدبيًّا لها. لذا أَتمنى عليك أَن تستخدم لغة تصْقُل نصك، شرط أَلَّا يخون نصُّك صقْل اللغة. وعلى ذكر الأُلعبانيات اللفظية، عليك باشتقاق كلمات جديدة من الأَوزان اللغوية الموجودة، فَتَنْحَتُ عبارة أَو فعلًا أَو كلمة أَو صيغة غير مأْلوفة الاستخدام، إِنما وزنها مأْلوف. كأَن تقول "كَبْسَلَ" كلامه أَي جعلَه مختصَرًا ككبسولة. الوزن "فَعْلَلَ" مأْلوف، إِنما فعل "كَبْسَلَ" غير مأْلوف. أَو كأَن تقول: "مَوْسَقَ" أَي جعَل لعبارته موسيقى. هنا أًيضًا: الوزن مأْلوف إِنما الفعل غير مأْلوف. إِنها عبقرية اللغة العربية التي تتيح لك اشتقاقاتٍ ذكيةً من ضمن النُظُم اللغوية، تستنبطها أَنتَ وتُصدِرُها في نصِّك فتكون بها مجدِّدًا، وتُغْنيها بالاصطلاحات من دون أَن تكونَ ذهبْتَ إِلى أُلعبانيات خرقاء لا نُظُمَ لغوية لها. الكلمات المعجمية موجودة في جميع القواميس. منها الميتة التي ما عادت في الاستعمال الكتابي ولا الشفوي فتسقط من التداول وتقع في المتحفيات، ومنها التي ما زالت في التداول إِنما يجمُلُ أَن تختار منها ما يَسْلسُ لفْظًا ويسهل معنًى، وتشتقَّ ما وَسِعَ لك الاشتقاق، حتى تكون مجدِّدًا لا مقلِّدًا سواك باستخدامكَ عباراتٍ وصيَغًا بليدة مأْلوفة ببَّغاوية مكرَّرة لدى الجميع فلا تكون لكَ أَيُّ بَصْمة تُميِّزُك عن سواك. المهم أَن تعرف ماذا تستخدم لنصِّك، وكيف تستعمله (بأَيِّ صيغة) وأَين تستخدمه في سياق النص. إِن ميزتك هي في الاستباق لا في اللحاق، وفي التجديد لا في التقليد، وفي الإِبداع لا في الاتِّباع. هنا جُرأَتُكَ في الإِقدام بدون تَهَوُّر، والجرأَةُ قنديلُك السحري في طريق تَمايُزِك ناثرًا مجدِّدًا أَو شاعرًا متفرَّدًا. ماذا بعد؟ اِنتظرني في رحاب "الرياض" نهار الخميس المقبل.