أَتكونُ في اللُغة "لُغات"؟ نعم تكون. أَتكونُ للشعر لغتُه ولغةٌ للنثر؟ نعم تكون. الشعرٌ فنٌّ فاخر، والنثرُ فنٌّ زاخر. في هذه الحلقة أَكتفي بالبحث في لغة الشعر. ما كلُّ كلمةٍ في القاموس تدخل في القصيدة. للقصيدة فخامةٌ مغايرةُ المحاكاةِ ذاتُ كلمات مصفَّاة منقَّاة مختارة بكل عناية، فلا يجرحَنَّ هيبتَها تعبيرٌ دُون فخامتها. ما السرّ؟ التكثيف: أَن يختزنَ البيتُ الشعريُّ أَوسعَ معنًى بأَضيقِ حيِّز، فيكتنز الصُوَرَ الأَكثرَ بالتعابيرِ الأَقلّ، دون سردٍ وحشْوٍ بأَدوات وأَسماء وأَفعال وحروف وظروف ونعوت وصفات وتشابيه وأَقوال وأَمثال ومفاصل وفواصل اعتراضية وتوابع ولواحق وتردادات مأْلوفة يتمطَّى معها المعنى مسترسلًا على راحته. بالتكثيف المبدع يُشرق البيتُ الشعري مرصوصَ البناء، وفلذتُه الشعرية محبوكةَ الشَعِّ فإِذا التمعَت ملأَت جوَّ البيت فالمقطعِ فالقصيدةِ نُورًا ينهمل على الأَبيات يُضيئُها ويتردَّد رعدُه في سماء القصيدة فتصبح هذه عمارةً شعرية ولا أَبهى. بهذا التكثيف يَخلق الشاعرُ المبدعُ "الحالةَ الثانية"، الحالة النفسية، حالة ال"لا هُنا"، فتكون القصيدة نُزهة العقل في روضة جمال، وينتفي الوقت المادي ليكون وقتُ الشعر. ليكون زمنُ الشعر. الشعر، هذه المادة غير المادية، هذا السحر العابر كلَّ توقيت، له توقيتُه المفرد. في الوقت المادي: الدقيقة 60 ثانية. في وقت الشعر: الدقيقة قد تكون بضعَ ثوانٍ هارباتٍ ممتعاتٍ من لذَّة التلقي، أَو تستطيل ثوانِيَ سلحفاتياتٍ مملَّةً إِذا سقَطَ الشعر في النظْم. مَن يأْتي هذه الدُربةَ؟ شاعرٌ متمكِّنٌ يُنْزِل كلمتَه نحتًا جماليًّا لا في مكانها المناسب بل: حيثما لا يَصُحُّ إِلَّاها دون سائر الكَلِم. ومَن متمكِّنٌ؟ مَن لا يتعكَّز على كلمة، أَو يتَّكئُ على عبارة، أَو يستعين بِمُفردة، كي يستقيم له الوزن ليُكمِلَ البيت. ومَن متمكِّنٌ؟ مُكَرَّسٌ تنسابُ قافيتُه لا سواها لؤْلؤَةً على تاج البيت، أَو يسعى إِلى قافية متعدِّدة الرويّ، ومَن لا يكرِّر القافية ذاتها في القصيدة. ومَن متمكِّنٌ؟ حِرَفيٌّ صَناعٌ لا يستسلم لِ"لاوعي الوحي" ينقاد به مغلوبًا إِلى حيث لا يريد، بل يظل ممسكًا وعيَه كاملًا لصنعة التأْليف والتشكيل فالإِبداع، ولا يرضى بمبدإِ أَنْ "هكذا جاء البيت" فلا يمسُّه بل يتركه كما هو ولو على حسَاب الجماليا. ومَن متمكِّنٌ؟ خلَّاقٌ يتعمَّد الإِتيان بكلمات ذات حروفٍ متناغمة حتى لهي تغني فيما تتناهى إِلى الكلمة. الشعر وحي؟ صحيح. إِنما، توازيًا، صنْعة حرفية دقيقة باذخة يَصُوغها الوحي والوعي معًا، كي يتأَلَّقَ الشعر في أُبَّهةِ تكثيفٍ صعبٍ مشغولٍ يُنقذه من السقوط في رخاوة استرسالٍ ثرثارٍ يدُسُّ النثر في القصيدة.