بعد مقالي "تنقية النثر من الشعر" (الخميس الأَسبق)، و"تنقية النثر من النثر" (الخميس الماضي)، أُعالج اليوم تنقيةً أَهمّ: إِنقاذ الشعر من النَظْم. فالشعر، منذ صباحاته، منكوب بالنظم الثرثار المرتكِبِ ادعاءَ الشعرِ والشعرُ منه براء، والشعراء المكرَّسُون، وهُم قلائل، منكوبون بالنظَّامين وما أَكثَرَهُم. باختصار أَوَّلي: ليس "شعرًا" كلُّ كلامٍ موزونٍ مقفَّى، ولا "شعرًا" كلُّ نظْمٍ سليمٍ عروضيًّا ولغويًّا، قد يُتقنه أَيُّ مدَرِّسٍ مادةَ البيان والعروض، وكلُّ من "يَنظم" تفعيلاتٍ من البحور الستة عشر، أَو نصًّا مُنْسرحًا مدوَّرًا على تفعيلة واحدة. حين أَرى إِلى الشعر فنًّا فاخرًا لا يُعطَى لأَيٍّ كان من عامَّة الكتَّاب أَو المنشئِين، أُنزِّهُهُ قبل هؤُلاء عن نظَّامين "يرتكبون" آفة نظْم مُفَعَّل عروضيًّا يسمُّونه شعرًا، وهو ليس سوى رصْف أَبيات متعامدة، فيها الصدر والعَجُز والرويّ والقافية لكنها فارغة من الشعر. وقد تكون فيها أَلْعُبانيَّاتٌ لفظية قاموسية صحيحةٌ لغةً لكنها خلْوٌ من الشعر. الشعر مَقتَلُه نظْمٌ يتوسَّل السرد والوصف والقَصّ والحوار وحشْد الأَدوات والأَسماء والموصولات والظروف والفواصل، وعواطفَ الرثاء أَو المديح أَو المبالغات أَو المغاليات أَو التفخيم أَو الهجاء، واستخدامَ الأَمثال السائرة والتعابير المعلَّبة المستعمَلة في الحياة اليومية أَو تخاطبًا عاديًا، أَو المعادلات المنطقية أَو التعداد أَو استعادة أَقوال سابقة، أَو ما يحتمل النثر من صيغٍ منسرحة أَو عبارات مكرَّرة أَو جُمَل اعتراضية، أَو كلَّ ما يَسهُل وضْعُه في نص نثري بدون ضوابط. يسأَل سائل: إِذا كلُّ هذا الأَعلاه من النظْم لا من الشعر، فما الشعر إِذًا؟ ومِمَّ يتكوَّن؟ الشعر قد لا يخلو من بعض هذا الأَعلاه، لكنَّ له ضابطًا أَعلى رئيسًا: التركيبُ الأَنيق على جمال. الشعر؟ لا يعنيك منه فقط "ما" يقوله الشاعر، بل "كيف" يقوله، ببراعته الخلَّاقة في صياغة سلسة (غير معقَّدة)، بسيطة (غير غامضة)، بارعة (غير أُلعبانية لفظية)، ويروح يستلُّ من قلْب قواعد اللغة وأَوزانها وقياساتها ما تُسعفه موهبته الفذَّة من تقديم وتأْخير، من استخدامٍ غيرِ مستهلَكٍ لؤْلؤَة المفعول به للمصدر واسم الفاعل واسم المفعول، وحذف حروف الجر، وكلّ ما يشكِّلُ جمال التكثيف وبلاغة الإِيجاز في تعبيرٍ أَقلَّ ثرثرةً عن معنى يَشعُّ بالتكثيف الأَجمل. ومتى بلغ الشاعر هذه الدُربة العليا، تغيب دندنة البحر والوزن والروي والقافية فتصبح كمرساة مستترة لولاها تترنَّح السفينة ومع ذلك يرى الناس السفينة ثابتة المهابة ولا يرون المرساة في القعر. وحين يؤْخذ القارئ (أَو السامع) برَوعة القصيدة، تصبح التفعيلةُ مرساةً، وتصبح في قلْب الشعر قصيدةٌ يكون شاعرُها أَنقذها من غبار النظم.