قبل أسبوع رحل الناقد كمال حمدي، وأعتقد أن الكثيرين لا يعرفونه، حيث كان من كُتّاب (ثقافة اليوم) - الملحق الثقافي لصحيفة الرياض في الثمانينات والتسعينات الميلادية - وكانت زاويته (الضفة الثالثة) معنيّة بالفن التشكيلي، وكان لهذا الرجل فضل عليّ في الاهتمام بالهندسة والأرقام والفن والعلوم الإنسانية الأخرى، وكان - رحمه الله - ضد الفصل بينهم لأن أساسهم واحد هو العقل والمنطق. كان في الأصل متخصصا في الدراسات الأوروبية وكان يُجيد اللغة اليونانية وعلى اطلاع باليونانية القديمة حتى إنه قام بتحقيق نصوص وترجمة عدة كتب مثل (فن الشعر) لهوراس وترجمة الدكتور لويس عوض، وكذلك كتاب الدكتور علي نور عن مسرح أرستوفانيس، وعن نفسه، له ترجمات عديدة مثل (محاورات أفلاطون)، كما ألّف عدة كتب عن الفن التشكيلي مثل (الضفة الثالثة)، كما عمل مديرًا لتحرير مجلة المجلة الثقافية حين كان يرأس تحريرها الأديب والروائي يحيى حقي والتي فتحت له علاقات مع النخبة مثل جمال حمدان وثروت عكاشة ونجيب محفوظ والكثير غيرهم، وتوج كل ذلك بأنه نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في مصر، وبرغم كل هذا التحصيل الثقافي والأدبي المميزة كان في المقابل عاشقًا لإصلاح الآلات والعربات وتطويرها أفضل من بعض المهندسين حتى أنه أهدى صديقًا له جهازًا من صنعه يسقي الحديقة بشكلٍ آلي كما حوّل بيته - بصنع يديه - إلى بيت مليء بالأجهزة التي تعمل بالمستشعرات. والسبب في ذلك كله أنه كان يرى بأن جميع العلوم مصدرها العقل وتسير حسب القواعد المنطقية، ولم يستثنِ الفن من ذلك بل يرى بأنه أفكار قد لا تكون قابلة للتطبيق إلا أنها تخضع لمنطقٍ يُكسبها الجمال والتميز، حيث كان الفن مفتاح المعرفة لمعتقدات المجتمع ومفاهيمه من نقوش الكهوف منذ آلاف السنين والتي سكبت ما كان في عقول الناس - ذلك الزمان - من معتقدات وأساطير إلى أن أصبح اليوم أداة لطرح الأفكار والاختلاف. وعلى صفحات صحيفة الرياض قدّم سلسلةً نوعيةً عن تطور الفن التشكيلي واختلافاته، بدءًا بلوحات (جون كنوستابل) التي كانت ترسم الواقع مثل الصورة، ثم الرسام (جوستاف كوربيه) الذي رسم حال الفرنسين في القرن التاسع عشر، ومن ثم تقنيات الرسم الصعبة مثل لوحة (مقهى في فوليس - برجر) للانطباعي (إدوارد مونيه) الذي رسم النادلة بشكلٍ معاكس عبرة المرآة ولوحة (الوصيفات) التي حيّرت النقاد للفنان (دييجو فلاسكيز) الذي رسم نفسه وهو يرسم الوصيفات، ثم مهارة الفنان (جويا) في وضع توقيعه الخاص بشكل مبتكر ومختلف في لوحاته. وفي تلك المقالات قدم قراءة فيها تفكيك لا يؤمن بالثوابت بحيث يأخذك لجزئية من اللوحة ثم يتركك تتامل وتكتشف جمال بقية اللوحة، وعاش حياته يكره المال والشهرة لأنه كان يرى أن مصدر السعادة هو العقل فعاش سعيدا بين متعة المعرفة وآفاق الفن.