"لماذا تراني عليّ ان أسعى لكي أرى في هذا العالم ما ليس فيه؟ ولماذا علي ان أشوه، بواسطة جهود المخيلة ما هو موجود فعلاً في هذا العالم؟". هذا القول الذي نقل ذات يوم عن الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه يكاد يلخص تصوراً لفن الرسم. فكوربيه كان الأول - وأحياناً الوحيد - بين الرسامين الذين وصفوا عند اواسط القرن التاسع عشر بالفنانين الوضعيين. وكان من أطلق عليهم هذا الوصف يفكر طبعاً بنظريات الفلسفة الوضعية كما صاغها اوغوست كونت 1798 - 1857 ثم كما فهمها وأوضحها المفكر الاشتراكي الفوضوي برودون 1809 - 1865 الذي كان صديقاً لكوربيه ويتابع عمله في شكل جيد، الى درجة انه قال مرة: "ان ما يريد السيد كوربيه ان يبرهن عليه في لوحته "عودة المؤتمر" انما هو عجز الامتثال الديني - اي الفكر المثالي - عن ان يدعم لدى القسيس حضور الفضيلة الصارمة التي يطالَب بأن تكون سلوكاً له". بالنسبة الى برودون كان فن كوربيه يصور الواقع في صرامته، بعيداً من اية مثالية، سواء كانت فنية او سياسية او فكرية. والحال ان هذا التوجه الفني جاء، في ذلك الحين متطابقاً تماماً مع نوع من الفكر المادي المباشر الذي كان سائداً في مرحلة انتفض الفن والفكر ضد نزعتين كانتا تتصارعان حيناً وتتكاملان حيناً آخر: الروانطيقية والكلاسيكية. وفي مقابل هاتين النزعتين كان الفن والفكر يطرحان الواقعية كحل وإمكان، سيراً على درب كبار نقاد الأدب الذين كانوا في ذلك الحين بالذات يطرحون الواقعية المادية حلاً لمشكلة الفن تين، ثم سانت بوف الى حد ما. وفي هذا الإطار كان كوربيه يعتبر سيد الواقعية في الرسم وبطلها، منذ لوحاته الأولى. فهو، إذ عارض في الوقت نفسه، الكلاسيكية والرومنطيقية، كان يرى ان ما يراه الفنان بأم عينه هو الموضوع الوحيد الذي يجدر به ان يُرسم. وهكذا مع كوربيه وجدت الذهنية العلمية التي سادت خلال القرن التاسع عشر، اكبر المنافحين عنها... الفنان الذي لم يتوان عن رفض احلام الأجيال السابقة وخرافاتها، ليركز كل اهتمامه على العالم القائم من حوله. غير ان كوربيه في الوقت نفسه عرف كيف يعزو الى ذلك العالم الحقيقي الذي يعيش فيه، عظمة ومهابة كانتا في الماضي محصورتين بمواضيع الأساطير والمواضيع الدينية. ومن هنا يمكن القول ان كوربيه كان الأول بين رسامي الحقبة الحديثة، إذ جعل من الحقيقة المرئية - ومن هذه الحقيقة وحدها - موضوعاً لفنه، متعمداً في الوقت نفسه ان يرفع تلك الحقيقة - من طريق الفن - الى درجة جديدة من الدلالة. بكلمات اخرى: جاء فن غوستاف كوربيه ليؤسطر اليومي، ويضفي الهالة الدينية على حياة كل يوم. وهذا التوجه يمكننا ان نلمحه في معظم لوحات كوربيه إن لم يكن في كل لوحاته. ومن اجمل هذه اللوحات بالطبع تلك التي تعرف باسم "ناخلة القمح" والتي رسمها كوربيه في العام 1853 وتوجد الآن في متحف الفنون الجميلة بمدينة نانت غربي فرنسا. وهذه اللوحة التي يزيد ارتفاعها قليلاً عن 130 سم، وعرضها عن 167 سم، ترصد في شكل حقيقي كل ما كان كوربيه يتوخاه من الفن: تصوير الحياة اليومية، أسطرتها، التعبير النفسي عن احوال الشخصيات، ناهيك بالديكور الواقعي الذي سرعان ما يبدو وكأنه مسرح يدور فيه حدث استثنائي، هو في حقيقته حدث شديد العادية. واللافت ان كوربيه نفسه كان يصف لوحته هذه بأنها لوحة "غريبة"... وهي لو تمعنا فيها حقاً ودرسناها ستبدو، في نهاية الأمر، مختلفة كل الاختلاف عن بقية لوحاته، ليس في موضوعها وإنما في تكوينها وتركيبتها، على رغم العادية التي تلوح منها للوهلة الأولى. صحيح، كما يقول دارسو عمل كوربيه المهتمون بهذه اللوحة على وجه الخصوص، ان نساء اللوحة يُصوَّرن وهن قائمات بعملهن اليومي، محاطات بكل الأدوات العادية اللازمة لمثل هذا العمل، ومع هذا فإن المشهد نفسه يبدو مصطنعاً. ومن الواضح هنا ان اصطناعيته مقصودة. و"حسبنا للتيقن من هنا - كما يقول الدارسون - ان نتمنعن في جلسة الشخصيات وسلوكهن. فالمرأة التي تسند ظهرها الى اكياس القمح تبدو وكأنها غارقة في احلامها فيما هي منكبة على تنقية القمح، ناهيك بأن انفراج اصابعها وهي تقوم بالعمل لا يبدو طبيعياً على الإطلاق بل متحذلقاً. اما المرأة الأخرى الراكعة والتي تقوم بنخل القمح فإنها تبدو وكأنها جامدة في وضعيتها لا تتحرك كما لو ان عصا سحرية امرتها بالجمود". ويمكن ان نضيف الى هذا كله ان كلاً من الشخصيات الثلاث في اللوحة تبدو غارقة في عمل لا علاقة له بعمل الأخريين... كما يبدو واضحاً ان التواصل بين الشخصيات الثلاث مفقود تماماً. انطلاقاً من هذا، يفترض دارسو عمل كوربيه انه في هذه اللوحة إنما اراد التعبير عن تأثره الكبير بالفن الياباني. فهذا الفن كان في ذلك الحين بدأ ينتشر في فرنسا وأوروبا من طريق الملصقات والمعارض والكاتالوغات. ويستند اصحاب هذا الرأي الى ان العناصر، في لوحة كوربيه، التي تكشف مثل هذا التأثر عدة: منها تلك المساحة الضيقة التي تشغل جزءاً كبيراً من النصف الأسفل في اللوحة وتحدها خطوط سود واضحة من كل طرف. وهناك ايضاً الجدار الخالي في خلفية اللوحة. والشخصيات المرسومة تبرز على خلفياتها وكأنها اطياف بثيابها ذات الألوان الحمر الغامقة والخضر/ الزرق. ويمكن ان نضيف الى هذا وجود الكثير من الأشكال الدائرية والبيضاوية المبنية واحدتها على الأخرى والتي تذكر الى حد كبير بالمصابيح والأدوات الموجودة بكثرة في الملصقات اليابانية. وفوق هذا كله، وأهم منه، هو وضعية الشخصية المركزية في اللوحة: ناخلة القمح نفسها، تلك التي تذكر جلستها في شكل واضح ولا لبس فيه بالتكوينات الجسدية التي اعتاد ان يأخذها في اللوحات اليابانية كما في الملصقات، ممثلو مسرح الكابوكي، وهي تكوينات تتضمن، عادة، بعداً درامياً عنيفاً يخرج عن المألوف، وقد يجد في نظرات عيني الممثل تفسيراً له. اما هنا فإن غياب عيني الفتاة التي تنخل القمح يجعل جلستها نفسها وتركيبة جسدها تحملان معاً كل تلك المعاني الدرامية التي تحملها اللوحة اليابانية. طبعاً من شأن مثل هذا التفسير ان يتناقض مع فهم سريع لما يقوله كوربيه نفسه من ان على الرسام ألا يرسم إلا ما يمكن عينيه ان ترياه في شكل مباشر. غير ان كوربيه نفسه كان يمكنه الدفاع عن لوحته مركزاً على ان المشهد الذي التقطته ريشته وألوانه يمثل لحظة من الواقع اليومي، وأن هذه اللحظة قد تتكثف فيها ابعاد درامية لا حدود لها. ومن هنا واقعية هذه اللوحة وغرابتها في آن معاً: واقعية اليومي وغرابة اللحظة التي نختارها منه. كوربيه الذي يوصف في فرنسا، عادة، بأنه مؤسس الواقعية، ولد العام 1819 لأسرة فلاحية غنية وكان جده جمهورياً عنيداً، وهو ما سينعكس لاحقاً في افكار الحفيد ولوحاته. وغوستاف اهتم منذ صغره بالرسم رافضاً الانخراط في الدراسة، ورافضاً الانتماء الى الكنيسة في الوقت نفسه. وهو توجه العام 1840 الى باريس، حيث انتمى الى "المعهد السويسري" للفنون الجميلة وكان التعليم فيه حراً تماماً، ما لاءم مزاج الرسام الشاب. وفور تخرجه في المعهد بدأ يرسم متأثراً بواقعية رمبراندت خصوصاً بعد زيارة قام بها الى هولندا. ومنذ عودته راحت لوحاته تتتالى وصار يشارك في معظم الصالونات حتى اصبح الفتى المدلل للمفكرين والنقاد الجمهوريين والاشتراكيين. غير ان سنواته الأخيرة كانت صعبة. وهو حين اندلعت احداث الكومونة 1870 عين رئيساً للجنة الدفاع عن الفن من جانب الثوار، ما جعله بعد انهيار الكومونة يحاكم ويسجن بتهمة المشاركة في تدمير عمود ساحة فاندوم. وإذ حكمته المحكمة بأن يدفع كلفة إعادة بناء النصب، هرب الى سويسرا حيث مات في العام 1877.