بعد المعرض الاستعادي الشامل الذي خصص للفنان التشكيلي الفرنسي غوستاف كوربيه في متحف «القصر الكبير» في باريس عام 2007، تكرّم العاصمة الفرنسية من جديد هذا الفنان الذي يعدّ من كبار فناني القرن التاسع عشر، وتخصص له مؤسسة «منى بسمارك» معرضاً مميزاً بعنوان «غوستاف كوربيه وحبّ الطبيعة» يكشف عن ملامح جديدة في نتاج هذا الفنان الذي كان في عصره أحد روّاد الفن الواقعي. يعرّف المعرض بالمراحل الأساسية التي مرّت بها تجربة الفنان منذ وصوله إلى باريس وهو في العشرين من عمره آتياً من مدينته أورنان. في متحف «اللوفر» اكتشف كوربيه نتاج فنانين أوروبيين كباراً عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر ومنهم الهولندي رامبرندت والإيطالي كارافاجيو والإسباني فيلازكيز. أما من الفنانين الفرنسيين فلقد أعجب بالفنانين جيريكو ودولاكروا وكانا من أشهر ممثلي التيار الرومنسي في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من تأثر كوربيه بأعمال هؤلاء فلقد أراد، منذ بداياته، أن يكوِّن أسلوبه الخاص الذي يميزه عن فناني جيله وعمن سبقوه. تجلت هذه الخصوصية في لوحة بعنوان «جنازة في مدينة أورنان»، وهي لوحة جدارية كبيرة نقل فيها الفنان مشهدَ دفن أحد أعيان مسقط رأسه. وقد هاجم النقاد هذه اللوحة لأن الأعمال الجدارية في ذلك العصر غالباً ما كانت تخصص للمواضيع التاريخية أو المستوحاة من الأساطير القديمة بينما اختار كوربيه مشهداً من الحياة اليومية. وإذا كانت أعمال الفنان التي تعكس مشاهداته لما يجري حوله هي التي أطلقت شهرته وجعلته رائد الفن الواقعي، فإنّ أعمالاً أخرى غير معروفة هي التي تكشف عن ثراء تجربته ومن أهمها لوحاته المستوحاة من المشاهد الطبيعية وتشكل المحور الأساسي للمعرض المقام حالياً في باريس. منذ البداية كانت للفنان علاقة خاصة بالطبيعة وقد عبّر عن افتتانه بها قائلاً: «أنا تلميذ الطبيعة.. الجمال حاضر في الطبيعة ويطالعنا بأشكال كثيرة ومتنوّعة. لكن ما أن نعثر عليه حتى يصبح ملكاً للفنّ أو للفنان القادر على رؤيته». تؤكّد الأعمال المعروضة أنّ كوربيه تمكّن من تجديد فنّ المناظر الطبيعية في عصره بعدما تمرّد على القوالب الكلاسيكية والأكاديمية. منذ الطفولة، تفتحت عيناه على جمال الطبيعة في مسقط رأسه حيث الأنهار والوديان تعانق السماء. وكان لاكتشافه للبحر أثناء زيارته لمنطقة «النورماندي» وهو في العشرين من عمره أثر كبير على توجهاته، قال في هذا الصدد: «البحر يقودنا ويشعرنا بالرغبة في مشاهدة العالم بأسره. البحر بلا أفق». يؤكّد النقاد أنّ كوربيه مهّد الطريق أمام الفنانين الانطباعيين من خلال الأعمال التي رسم فيها الطبيعة المغطّاة بالثلوج. «انظروا إلى ظلال الثلج كم هي زرقاء» قال الفنان معبّراً عن هاجسه في التقاط تحوّلات الضوء والظلّ وانعكاسها على بياض الثلج. وبات من المؤكد اليوم أنه ترك أيضاً أثراً كبيراً في عدد من كبار فناني عصره ومنهم مانيه، مونيه، رونوار وسيزان.