فيما تعمل المملكة العربية السعودية على كشْف ما في أرضها التاريخية الغنية من كنوز آثار عريقة ومراحل عميقة تشير إلى غنى المملكة بتُراث فريد تكشفه وتحفظه وتحافظ عليه بأرقى ما يكون الصَون، يَجمُل البحث في مطالع حفظ التراث وسنِّ قوانينه ودساتيره. ما إن هدأت الحرب العالمية الثانية، حتى اختَتَم أعمالَهُ مؤْتمرُ الأُمم المتحدة الخاص ب»نظام الهيئة الدولية»، توقيعًا في مدينة سان فرنسيسكو (كاليفورنيا) على «ميثاق الأممالمتحدة» عصر الثلاثاء 26 يونيو 1945، وأصبح نافذًا بعد أربعة أشهر (بدءًا من الأربعاء 24 أكتوبر 1945)، ليكون النظام الأساسي ل»محكمة العدل الدُوَلية» في لاهاي. جاء في مقدمة الميثاق: «نحن، شعوب الأُمم المتحدة، نتعهَّد أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلاتٍ سبّبَت للإِنسانية في حربَين أحزانًا يصعب وصفها. نؤَكِّد إِيماننا بحقوق الإِنسان الأساسية، وندعو إِلى التسامح والعيش معًا بسلام وحسْن جوار، والاحتفاظ بالسلْم والأمن الدوليين. ولتحقيق ذلك أنشأْنا هيئة دولية تسمى «الأُمم المتحدة». إنما... قبل 700 سنة هذه الشُرعة المكتوبة قبل 77 سنة، لم تكن الأُولى في التاريخ. فقبلها بسبعة قُرون، وُلِدت شُرعةٌ شَفَوية غير مدوَّنة، ضبطَت مجتمعها وسَنَّتْ له قوانين. كان ذلك سنة 1236 في مدينة كوروكان فوغا (Kouroukan-Fouga) وهي منبسَط سهلي عند منبع نهر النيجر (على الحدود الحالية بين ماليوغينيا)، وسُميَت الشُرعة باسمها. ولها اسم آخر: شرعة ماندِن (Manden) على اسم قبيلة مُطْلِقها الأمبراطور سوندياتا كيتا (1190-1255). والشُرعة: مجموعة قوانين أصبحت دستور أمبراطورية ماندِن (واسمُها أيضًا أمبراطورية مالي). ولأهميتها التاريخية كرَّسَتْها منظمة الأُونسكو (پاريس 2009) «أول تراثٍ للإِنسانية في العالم ثقافيٍّ غيرِ مادي». فعدا إِرثها الثقافي (نصوصُها مقاطعُ ملحمية شعرية تنتقل حكاياتها شفويًّا من جيل إِلى جيل)، استوحَت موادَّها القانونية لاحقًا دولٌ عدةٌ ومجتمعاتٌ لاحقة من ذاك العالم القديم. شعب ال»ماندِن» أعرق شعوب أفريقيا الغربية. فالأمبراطور سوندياتا أسس أمبراطورية مالي في القرن الثالث عشر. وبعد انتصاراته العسكرية على أعدائه، جمَع قوَّاده في سهل كوروكان فوغا، ووضع لهم شُرعةً كانت الأُولى في العالم، مبدأُها الوحدة المجتمعية. هيكَليَّةُ الشُرعة بعد مقدمتها، تتوالى سبعة فصول هي: الأمن الاجتماعي، عدمُ التعدِّي على الحقوق الفردية، التربية والتعليم، وحدة الأُمة، الأمن الغذائي، إِلغاء الاستعباد، حرية التعبير والعمل. وبقيَت الشرعة شفوية اصطلاحية جيلًا بعد جيل. وحتى بعد زوال الأمبراطورية الماندية، بقيَت بنودها مكرَّسةً في تقاليد اجتماعية متَّبعة باحترام، يقام لها احتفال سنويٌّ عند مطلع الشتاء في قرية كانغابا (اليوم في مالي على الحدود مع غينيا)، وما زالت سلطات مالي تستوحي من هذه الشرعة تقاليدَها وسُنَنَها، مستخلصةً منها رسالةَ حب ووئام وأُخُوَّة مستمرة. بُنودُ الشُرعة هي من أربعة أبواب: التنظيم الاجتماعي (من المادة 1 إِلى المادة 33)، توزيع الخيرات (من 34 إِلى 39)، الحفاظ على البيئة والطبيعة (4-42)، ملاحظات ختامية (43 -44). وهنا أبرز هذه المواد: * القادة الروحيون المسْلِمون يَهدُوننا بتعاليم الإِسلام، وعلى الجميع طاعتُهم واحترامُهم. * على الشعب قولُ الحقيقة للحاكم، والدفاعُ عن القواعد والأُصول والتقاليد والنظام على جميع أراضي الأمبراطورية. * كلُّ من يعتدي على حياة الآخرين مصيرُهُ الموت. * تنشأُ في كل قبيلة لجنةٌ لمُحاربة الكسل والبطالة. * تعليم الأولاد واجب: على كل ربّ عائلة فرديًّا، وعلى المجتمع جماعيًّا. * لا يُوصَى بالإِرث إِلى ولدٍ دون سواه إِن كان له إِخوة. * ممنوع، لأيّ سبب، التوجُّه للأُم بأيِّ إِهانة. * احترام الشقيق الأكبر في كل حال. * ممنوع استعبادُ الخدَم وعدم تشغيلهم ساعات طويلة في اليوم. سُلْطتنا هي عليهم لا على الأكياس التي يحملونها مُتْعَبين. * التكبُّر علامةُ ضعف، والتواضع علامة كبَر. * لا يخونَنَّ أحدٌ أحدًا. يجب احترام كلمة الشرف. * ممنوع تسخيف الأجانب أو الإِساءة إِليهم. * يُسمح للفتاة بالزواج بدءًا من سن بلوغها، وللشاب بدءًا من سن العشرين. * يتكوَّن المهر من ثلاث حصص، واحدة للفتاة واثنتَين لوالدها ووالدتها. * ضرورة المبادرة إلى مساعدة الآخرين حين يحتاجونها. * احترام القرابة العائلية وحالات الجيرة وحرمة الزواج. * اقتلوا عدوَّكم بدون أن تُذِلُّوه أو تُهينوه. * في الاجتماعات الكبرى، التزموا بمندوبين عنكم من دون خلافات حول مَن يمثلونكم. * لاكتساب الملْكية خمس وسائل: الشراء، الوهْب، التبادل، العمل، الوراثة. وتسقط كل وسيلة أُخرى. * كل غرض لا يَظهر صاحبه، لا يُصبح اقتناؤُه شرعيًّا إِلَّا بعد مرور أربع سنوات على إِيجاده. * الأرض أغلى ثرواتنا، على كلٍّ منَّا حمايتُها والحفاظُ عليها من أجل الفرد والجميع. * يجب ربْطُ الحيونات الداجنة إِبان عمليات الزراعة وإِطلاقها إِبان الحصاد. يستثنى من الربط: الكلب، الهر، الأوز، الدجاج. * مَن يخالف هذه القوانين أعلاه أو أحدها، يُعاقَب بقسوة صارمة وبلا رحمة. وعلى كلّ فرد تطبيقها وسْع أراضي الأمبراطورية بدون أيِّ استثناء. الأمبراطور سوندياتا كيتا ملصق «ميثاق الأُمم المتحدة» (26 يونيو 1945) «كوروكان فوغا» وُلدَت فيها الشُرعة قبل 700 سنة