عندما وجه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية رسالته الشهيرة إلى مؤتمر الولاياتالمتحدة والتي تضمنت إشارة صريحة إلى الحريات الإنسانية الأربع القول والعبادة وحق الحماية من العوز وحق العيش بمأمن من الخوف اعتُبرت حينها بمثابة ولادة الوعي الدولي بحقوق الإنسان. و فعلاً وقع ممثلو 26 دولة في 1 كانون الثاني يناير 1942 إعلاناً للأمم المتحدة أكدوا فيه على"الدفاع عن الحياة والحرية والاستقلال والحرية الدينية وضمان حقوق الإنسان والعدالة البشرية في بلادهم وسائر البلاد". ثم جرى اقتراح إنشاء هيئة دولية عامة متخصصة في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الدولية إضافة إلى العمل على احترام الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية، إلا أن حقوق الإنسان لم تحتل مكانة متميزة بل طغت على المؤتمر اقتراحات من أجل إقامة منظمة دولية عامة تدعى الأممالمتحدة بدلاً من عصبة الأمم. إلا أن أهمية ذلك المؤتمر تكمن في أن اقتراحاته كانت أساس أعمال مؤتمر سان فرانسيسكو الذي عقد عام 1945 من أجل تأسيس هيئة الأممالمتحدة وأجرى تعديلات جوهرية على ميثاق المؤتمر المذكور بحيث جاءت ديباجته متضمنة"تأكيد الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره". إضافة إلى ذلك تعرض الميثاق في سبعة أماكن لحقوق الإنسان، بما فيها الديباجة، إذ ظهرت عبارات تنص على تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية مع تغييرات طفيفة في العديد من المواد المتعلقة بأغراض ومبادئ الأممالمتحدة. كما أن المادة 5 المعطوفة على المادة 55 تضمنت"تعهد الأعضاء كافة بالقيام مجتمعين ومنفردين بتحقيق عدد من الأهداف التي تقوم الأممالمتحدة بتوطيدها من بينها الاحترام العالمي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع من دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الديانة، ومراعاة التقيد بتلك الحقوق والحريات". وفي خطابه في اختتام أعمال المؤتمر صرح رئيس الولاياتالمتحدة آنذاك هاري ترومان أن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن إعلاناً دولياً لحقوق الإنسان، مقبولاً من جميع الأمم سيُسن، وقرر إنشاء لجنة لحقوق الإنسان حددت مهامها في إصدار إعلان دولي لحقوق الإنسان واتفاقات دولية على الحريات الوطنية وغير ذلك، وتألفت اللجنة في 16 شباط فبراير 1946 من 18 عضواً تمثل الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وفرنسا وغيرها مع وجود مصر ولبنان من الدول العربية بحيث ترأس السيدة اليانور روزفلت اللجنة، وتتألف من شانج الصيني، ورينيه كاسان الفرنسي، وشارل مالك اللبناني مقرراً. وبدأ مؤتمر سان فرانسيسكو في 25/4/1945 وانتهى بصدور ميثاق الأممالمتحدة في 26/6/1945، وبرز خلال المؤتمر اهتمام جدي بمسألة حقوق الإنسان نظراً الى الفظائع التي رافقت الحرب، فاقترح بعض رؤساء الوفود إدراج مواد خاصة في ميثاق الأممالمتحدة حول هذه المسألة، لكن الرأي استقر في النهاية على أن تصدر الأممالمتحدة شرعة مستقلة لهذه الغاية ، ونصّ الميثاق على وجوب تأسيس لجنة لحقوق الإنسان. لقد خاض شارك مالك في تلك الفترة نقاشات مطولة مع رؤساء الوفود الأجنبية من أجل استقلال لبنان لكنه غالباً ما كان يلقى الصد باعتباره يمثل دولة صغيرة، وشهد الحوارات العقيمة ولكن الثرية بين الوفود المتعددة الثقافات والاتجاهات العقائدية، لقد اكتشف حقيقة هذا العالم الذي وصفه بأنه بعيد كل البعد عن أفلاطون والمسيح وتمنى العودة بذاته وبقلمه إلى الفلسفة لأنها عالم الحقيقة كما وصفها، وعالم السياسة هو عالم الزيف. في عام 1946 تمت إعادة انتخاب الدكتور مالك عضواً في المجلس الاقتصادي والاجتماعي وقد أنيط بهذا المجلس وضع شرعة لحقوق الإنسان حسب ما نص عليه ميثاق الأممالمتحدة. وقد تم بالفعل في 16/2/1946 تأليف لجنة أولية خاصة بحقوق الإنسان من تسعة أعضاء في المجلس الاقتصادي والاجتماعي. ثم تضاعف أعضاء هذه اللجنة فأصبح 18 عضواً في أواخر السنة نفسها، بينهم شارل مالك، وأناط المجلس باللجنة المذكورة وضع الشرعة المتعلقة بحقوق الإنسان. لقد كان عنوان حقوق الإنسان يثير تحفظات الدول الكبرى خصوصاً الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي اللذين لم يبادرا إلى تأييد عمل اللجنة، بل إن اختيار السيدة إليانور روزفلت قرينة الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت رئيسة للجنة حقوق الإنسان المنبثقة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي لم يلق التأييد المطلوب من الإدارة الأميركية. ولكن مبادرة أكثر من 42 مؤسسة أميركية غير حكومية إلى تأييد هذا الاختيار، والحماسة الفائقة التي أبداها الشعب الأميركي لها، جعل الولاياتالمتحدة تنصاع للأمر الواقع وتبدي اهتماما ًأكبر بحقوق الإنسان. بدأت لجنة حقوق الإنسان المنبثقة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي سلسلة اجتماعات مكثفة من 27/1 إلى 10/2/1947 في لايك ساكس بنيويورك، وأقرت اللجنة خلالها تثبيت السيدة روزفلت في مركز الرئاسة ومندوب الصين ينغ تشونغ تشانغ نائباً لها، كما انتخبت بالإجماع الدكتور شارل مالك مقرراً. وكان الجنرال كارلوس روميولو مندوب الفلبين هو من رشح مالك لهذا المنصب، وقد عقدت اللجنة 22 اجتماعاً صاخباً تميزت بالفوضى والضبابية والخلافات العقائدية بين الماركسيين والليبراليين . لقد نشأ خلاف حاد بين أفكار مالك المستندة الى التعاليم المسيحية وبين آراء تشانغ الكونفوشية التي تدعو إلى الفضيلة مجسدة بنظام الحكم، فبينما كان مالك يركز على أن حقوق الإنسان هي في ذات وجوده وكيانه وطبيعته، كان تشانغ ينادي بأن رفع مستوى الإنسان يتم فقط بتحسين أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه دار صراع حاد وعنيف بين مالك وآرائه الليبرالية مع التوجه الماركسي - اللينيني الذي كان مندوبو الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا يتبنونه بأعلى درجات الحماسة ولنا أن نتخيل حجم الصراع الفكري الدائر بين الرؤيتين اللتين لم تستطع رئيسة اللجنة التوفيقية من التلطيف بينهما، فكلف الكندي جون همفري وضع مسودة للإعلان، فوضع 400 صفحة بناء على تكليف اللجنة الثلاثية المؤلفة من روزفلت وتشانغ ومالك، ولما كان من غير العملي أن يصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 400 صفحة، قطعت اليانور روزفلت الجدل بقرار حاسم جرى بموجبه تكليف رينييه كاسان وضع مسودة مختصرة واضحة ودقيقة، على أن يستنير برأي مالك في كل فقرة من فقراتها، فاعتمد كاسان على"إعلان حقوق الإنسان والمواطن"الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789، وشرعة"الماغنا كارتا"الصادرة عن نبلاء بريطانيا العظمى سنة 1215، وعمل على اختصار الإعلان العالمي في ثلاثين مادة مستعيناً بشارل مالك في بلورة نصوصه وصياغته باللغة الانكليزية التي كان يجهلها والتي كانت ولا تزال اللغة الأولى في الأممالمتحدة. وهكذا انطبعت الوثيقة بأفكار مالك وظهرت في متنها بصماته الدامغة فضلاً عن تفرده بوضع المقدمة. وكان واضحاً إصراره على المادة 18 التي تنص على حرية التفكير والضمير والدين، والمادة 20 حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية وعدم إكراه أي إنسان على الإنضمام إلى جمعية ما، والمادة 26 حق الإنسان في التعليم، واستطاع كاسان الفرنسي بدبلوماسيته الفائقة وخبرته القانونية التوفيق بين القائلين بحقوق الفرد والمدافعين عن حقوق الجماعة. وفي تلك الفترة العاصفة التي وقعت فيها حرب 1948 وما لحقها من تشريد للشعب الفلسطيني وهضم لحقوقه المشروعة على أرضه وبعد صدور قرار التقسيم في الأممالمتحدة وتصويت العرب ضده تقاعد شارل مالك من موقعه مخلفاً لنفسه ذكرى حميدة تمثلت في شرعة حقوق الإنسان ، وقرر العودة مع زوجته إلى جنيف حيث شارك في مؤتمر لحقوق الإنسان ، ثم إلى لبنان. بعدها عاد متفرغاً للعمل على إقرار شرعة حقوق الإنسان بتكليف من السيدة روزفلت التي طلبت منه وضع المقدمة الفلسفية للإعلان التي أقرت بحرفيتها مع تعديلات طفيفة، ثم عقدت الجمعية العمومية للأمم المتحدة دورتها العادية في باريس سنة 1948، وانتخب الدكتور مالك في 21/9/1948 رئيساً للجنة الثالثة المعنية بحقوق الإنسان خلفاً للسيدة روزفلت التي بقيت في رئاسة اللجنة الفرعية المهتمة بصياغة الشرعة، وقد تعين عليه أن يدير اجتماعات 58 عضواً يؤلفون اللجنة الثالثة وأن يدخل في الوقت نفسه في سباق مع الزمن لإقرار الوثيقة العالمية قبل نهاية عام 1948. غير أن مناقشة المسودة الأخيرة التي وضعها كاسان من قبل المندوبين بنداً بنداً فتحت باب المزايدة على مصراعيه بين مندوبي الدول الكبرى التي جنحت إلى السلبية، وبين مواقف الدول المختلفة التي راحت تثير مواضع سياسية آنية ذات حساسية بالنسبة لمعظم الدول. وأخيراً استطاع شارل مالك أن يضبط المناقشات وقرر عقد اجتماعات متواصلة ليلا ًونهاراً لمناقشة البنود وألا يسمح لأي مندوب بمداخلة تتجاوز ثلاث دقائق، ثم أن يتم التصويت على مواد الوثيقة بمن حضر، وأخيراً تحقق الأمل المنشود وتم إقرار الشرعة بالأكثرية الساحقة من الأصوات ودون أي اعتراض من أحد، فأذيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قصر شايو في باريس بتاريخ 10/12/1948 الذي أصبح بمثابة الدستور بالنسبة للحركة الحقوقية العالمية على المستويين النظري والعلمي. ويكفي أن ننهي بما قاله كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة عن شارك مالك ودوره في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "شغل الديبلوماسي اللبناني المرموق شارل مالك منصب رئيس اللجنة الثالثة للجمعية العمومية، ولعب دوراً حاسماً في وضع نص هذا الإعلان، وهو نفسه كتب مرة"ما من مسألة أساسية في حياة الإنسان - من الله والدولة إلى الأطفال والضمان الاجتماعي - لم تقدّم ويتم بحثها"فيما الوفود من مختلف الدول يعلقون ويصوتون على كل مادة، لا بل على كل كلمة من مسودة الإعلان، ومنذ تبنيه ترجم الإعلان إلى أكثر من مئتي لغة، وباتت مبادئه تشكل جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحياة القومية والدولية. ونتجت عن الإعلان مجموعة لا يُستهان بها من القوانين، وأدى إلى تكوين وعي عالمي حول أهمية حقوق الإنسان". * كاتب سوري