بعد كل حرب ذات سمة شمولية، تسعى القوى المتصارعة الى ايجاد قواعد للتعامل في ما بينها وهو ما يعرف تاريخياً بالقانون الدولي. كما تعمد الى انشاء منظمات تعنى بتطبيق هذا القانون ومنها عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، وهيئة الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وعادة ما تعكس هذه القوانين والمنظمات توازناً سياسياً - عسكرياً معيناً في الواقع الدولي. ولقد كانت هيئة الأمم تمثل هذا التوازن طوال نصف قرن وخلال ما عرف بالحرب الباردة. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينات، وتوقف الحرب الباردة، وبدء صعود القطبية الأميركية الواحدة بتوجهها الامبراطوري الواضح، بدأ نجم الأممالمتحدة بالأفول ولم تعد تلك القوة المعنوية والعملية التي لها الكلمة المسموعة والرأي الحاسم في مسار العلاقات الدولية. صحيح انها ظلت مكاناً للقاء دول العالم، ولكنها تحولت، الى حد ما، الى شبه نادٍ للأمم يتبادلون على منابره الكلمات وقليلاً ما تأخذ الدول الكبرى برأيه في الأزمات الكبرى والطارئة. لقد كان حادث تفجير مقر الأممالمتحدة في بغداد خطيراً جداً وغير مسبوق في استهداف المنظمة الدولية بهذا الشكل المأسوي والمريع، وطرح بالفعل، ليس فقط علامة استفهام حول دور الأممالمتحدة في العراق، بل حول دورها في العالم. وازداد التساؤل عمّا إذا كان دور الأممالمتحدة كمنظمة مجسّدة للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهى أو أنه في طور الانتهاء. وهذا يعني ان الأممالمتحدة موضوعة على المحك. كيف؟ ولماذا؟ أولاً: النظرة الامبراطورية الى الأممالمتحدة!. 1- تكمن النظرة المرجعية الى الاستراتيجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش الابن في الوثيقة التي اعتمدتها ادارته بتاريخ 20 أيلول سبتمبر 2002 تحت عنوان "الاستراتيجية القومية لصيانة أمن الولاياتالمتحدة". وتأتي هذه الوثيقة لتؤكد التحوّل الكبير في السياسة الأميركية وانعكاسها على العالم بعد أحداث 11 أيلول 2001: "هذه القوة الكبرى التي لا معادل لها، والمستعدة لاستعمال القوة لوحدها اذا اقتضى الأمر ازاء كل تهديد محتمل للولايات المتحدة عبر الحرب الوقائية"! 2- لقد قسمت النظرية الأميركية العالم الى شطرين: من هم مع أميركا.. ومن هم مع الارهابيين. وبالتالي ليس بمقدور الأممالمتحدة ان تكون قوة فاعلة او حكماً في هذا النوع من الصراعات. ولذا فإن الأممالمتحدة تكاد لا تذكر في وثيقة أيلول الأميركية، فدورها غائب أو مهمّش وهي واحدة من المؤسسات التي ينبغي في المفهوم الأميركي ان تتلقى التعليمات والقرارات من واشنطن "لأن الامبراطورية الأميركية لا تخضع لأي قرار لم تتخذه بنفسها. فقانونها وشرعها هو قانون للعالم وعلى الجميع احترامه وتطبيقه بالحسنى أو بالقوة". 3- خرجت النظرية الأميركية الجديدة بآفاقها الامبراطورية على الضوابط القانونية المعروفة للسياسة الدولية القائمة على التعددية باتجاه تركيزها على القطبية الآحادية. هذا يعني شطب مفهوم "الواقعية السياسية" باتجاه هدم وتغيير الواقع القائم أي تغيير العالم وتغيير أنظمة الدول وبالتالي تغيير النظام الدولي. فالنظام الدولي القائم منذ العام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وإحدى ثمراته هيئة الأمم لم يعد صالحاً. والنظام الدولي الجديد يولد من تغيير أنظمة الدول غير الديموقراطية باتجاه جعلها أكثر حرية وديموقراطية بالعمل العسكري إذا لزم الأمر. وفي الاعتبار الأميركي "ان التغيير يجب ان يبدأ بالعالم الاسلامي الذي هو الأكثر خطراً على أميركا". 4- من الطبيعي ان تسعى الولاياتالمتحدة، في ظل لاتوازن القوى العالمي الجديد، ان تصوغ قانوناً دولياً جديداً يكون أكثر طواعية لها وأكثر تعبيراً وخدمة لأهدافها ومصالحها السياسية والمادية. هذا يعني ضرورة تعديل ميثاق الأممالمتحدة أو أبعد من ذلك، صياغة ميثاق أممي جديدة يناسب الوضعية الدولية الجديدة ويعكس موازين القوى داخل العلاقات الدولية حيث تبرز الولاياتالمتحدة كقوة وحيدة امبراطورية. فقد بات واضحاً ومؤكداً، ان الأميركيين يتجاوزون بسرعة وبسهولة المنظمات الدولية، بما فيها مجلس الأمن إذا كان غير قادر أو غير راغب في الالتزام "بالقرارات الأميركية" التي عادة ما تتخذ طابع الاملاء. وفي حالات أخرى طابع طلب "الشرعية" الشكلية اللاحقة كما فعل الرئيس بيل كلينتون في 1991 بعد كوسوفو، وكما فعل الرئيس بوش 2003 بعد حرب العراق القرار 1483. 5- وفي حين تسعى أميركا لإلغاء نظام الأممالمتحدة أو تهميشه، تقوم دول كبرى أوروبا وروسيا والصين بالعمل على توطيد هذا النظام والتقيد به والمحافظة على مؤسساته والتمسك بشرعيته. وهي تلقى الدعم من العديد من دول العالم الثالث. وهذا الواقع عكسته مناقشات مجلس الأمن حول التدخل العسكري في العراق. بحيث لم تستطع أميركا انتزاع قرار بالحرب من مجلس الأمن فذهبت الى الحرب من دون قرار ولكنها عادت تطلب شرعنة تدخلها من مجلس الأمن بعد اسقاط نظام صدام حسين. 6- ان الولاياتالمتحدة تسعى لفرض رؤيتها الاستراتيجية على العالم، ليس فقط بالقوة العسكرية بل عبر العولمة أيضاً. وهكذا تضع مختلف المؤسسات الدولية تحت هيمنتها: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، كما تقف من جهة ثانية ضد كل تشريع او مؤسسة جديدة يمكن ان تحدّ من حرية تصرّفها عملياً وقانونياً. وهذا يفسر موقفها من "قانون البحار" كما يفسّر رفضها "للمحكمة الجنائية الدولية". ثانياً: الممارسات الأميركية في تخطّي القانون الدولي. يمكن ان نجمل الممارسات الأميركية التي تؤكد التوجه الأميركي لتخطي القانون الدولي ممثلاً بمؤسسات هيئة الأممالمتحدة بثلاثة أمور أساسية: أولها: اسقاط مبدأ السيادة الوطنية للدول وإجازة التدخل العسكري لدولة أو أكثر لدى دولة سيدة مستقلة بما يخالف ارادتها، وهو أحد أقدم المبادئ في القانون الدولي تأكد في معاهدة ويستفالي عام 1648 بعد حرب الثلاثين سنة. وتم درسه في كوسوفو 1999 وفي العراق 2003. في كوسوفو بواسطة حلف شمال الأطلسي، وفي العراق بواسطة التحالف الأميركي - البريطاني، وفي تبرير ايديولوجي لهذا التجاوز ذهب المحللون القانونيون الى ان سيادة الدولة تنبع من القانون الدولي وليس العكس، وأن مصلحة الشعوب تتقدم على مصلحة الدولة، وان الاعتبارات الانسانية تتقدم على الاعتبارات الوطنية ولهذا فالشرعة الجديدة للعلاقات الدولية هي الاعلان العالمي لحقوق الانسان وضرورة الالتزام به. فهو قانون مطلق فوق / دولاتي، وهو المرجعية في تحديد مبررات العمل السياسي الدولي ازاء انتهاك حقوق الانسان: سواء ضد الأشخاص أم ضد الأقليات! ثانيها: استخدام القوة في حل المنازعات الدولية دونما رابط أو وازع في خطوة تعتبر عودة الى القانون الدولي التقليدي السابق لميثاق الأممالمتحدة. وفي حين يعتبر بعض رجال القانون الدولي، وبينهم أميركيون، ان استخدام القوة من دون ترخيص من مجلس الأمن أي من الشرعية الدولية يعتبر بمثابة عدوان، فإن قانونيين آخرين بدأوا يميلون الى جواز استخدام القوة من دون تصريح من المجلس كون الأوضاع الدولية مضطربة وخطرة، خصوصاً مع وجود أسلحة الدمار الشامل، بحيث يصعب بل يستحيل البقاء مكتوفي الأيدي إزاء القواعد المتصلبة للأمم المتحدة والقيود التي فرضها الميثاق لجواز استخدام القوة ضد دولة ذات سيادة. مبررات التدخل الاميركي لقد عملت الإدارة الأميركية الحالية، بالنسبة الى الحالة العراقية، والى قرارها باستخدام القوة في العراق على ثلاثة خطوط متكاملة: - بذل جهود كبرى لدى مجلس الأمن لاستصدار قرار يسمح لها باستخدام القوة ضد العراق. ولم تنجح في ذلك. وكان لفرنسا دور بارز في الممانعة. - استخدام القوة ضد العراق وتبريره: العمل ضد الارهاب الدولي ومخاطر أسلحة الدمار الشامل العراقية.. "وخطر استخدامها خلال 45 دقيقة". - الاجتهاد في تبرير قانوني للتدخل بالاستناد الى الفقرة 13 من قرار مجلس الأمن رقم 1441 تاريخ 8/11/2002 الخاص بالعراق وتنص الفقرة على "ان العراق سيواجه عواقب خطيرة نتيجة لانتهاكاته المستمرة لالتزاماته". ما يعني ان الولاياتالمتحدة تدرك، مع ذلك - تدرك الآن أكثر - معنى تبرير التدخل على يد الشرعية الدولية. خصوصاً وأن غالبية الدول التي دعتها حالياً لمساندتها في فرض الأمن والاستقرار في العراق كان شرطها الأول الاستحصال على تفويض من مجلس الأمن للمشاركة في المساعدة. من جهتها أصرّت الأممالمتحدة، وأصرّت معها دول كبرى مثل فرنسا وألمانيا وروسيا بعلى نها لن تقبل مبدأ المشاركة في المساعدة الميدانية ما لم تقبل الولاياتالمتحدة ان يكون للأمم المتحدة ولدول المجلس الحق بالمشاركة في القرار وليس فقط في التنفيذ. وهو أمر يضع الإدارة الأميركية أمام خيارين: خيار الصقور الذين يرفضون اعطاء دور في القرار لغير أميركا، بما في ذلك الأممالمتحدة لأنه ليس للامبراطورية حلفاء بل لديها "تابعون"! وخيار المعتدلين الذين يرون ان الغطاء الشرعي للأمم المتحدة شرط ضروري وأساسي لإنجاح المهمة الأميركية المتعثرة في العراق. وهم الآن يحاولون الوصول الى حل وسط بين التوجهين! ثالثها: اعتماد خيار الحرب الوقائية: وهو عماد الاستراتيجية الأميركية الجديدة بعد أحداث 11 أيلول، فمن وحي هذه الأحداث، رأت أميركا أنه ليس عليها ان تنتظر كي تُضرب من قبل من تسمّيهم "ارهابيين وأعداء مجهولين"، بل عليها ان تبادر مسبقاً الى ضرب كل جهة تعتبرها هي، جهة عدوّة وتشكّل خطراً محتملاً عليها. ولهذا عمدت الى وضع لائحة ب"الدول والقوى المارقة" او ما تسمّيه "محور الشر". وبالتالي فإن خيار الحرب الوقائية، هو التجسيد العملي لمبدأ استخدام القوة في العلاقات الدولية. وهو ما حصل في أفغانستان ومن ثم في العراق. ولا يُعلم غداً دور من سيكون! مع الاشارة هنا الى تصاعد دعوات في الكونغرس أخيراً لقيام أميركا بأعمال حربية في دول أخرى في الشرق الأوسط لأن هذا هو السبيل لفرض الاستقرار والأمن والسلام في هذه المنطقة! ثالثاً: حول تفجير مقر الأممالمتحدة في بغداد: في ضوء هذه الاعتبارات المذكورة، كيف يمكن النظر الى تفجير مقر الأممالمتحدة في بغداد؟ لقد أكد حادث التفجير، إضافة الى نتائجه الكارثية من حيث القتلى والدمار، ان مقر المنظمة الدولية في بغداد لم يكن محروساً بما فيه الكفاية بل كان يقوم على حراسته أفراد من مؤسسة خاصة للأمن. ولقد قيل بأن المسؤولين عن المنظمة رفضوا عرضاً أميركياً بحراسة مقرهم، وبحسب الأمين العام كوفي أنان، ف"هذا خطأ كبير إذا كان الرفض صحيحاً". لكنه أضاف، "ان السلطة المحتلة هي المسؤولة عن القانون وعن النظام وعن الأمن في العراق". ضرب الشرعية الدولية أما بخصوص الدوافع فقد كانت هناك روايتان برزتا في وسائل الاعلام، الأولى يرددها خصوم أميركا، وفيها ان المستفيد الأول من إبعاد الأممالمتحدة عن العراق هما أميركا واسرائيل لئلا يكون هناك منافس لهما في العراق أو شاهد على ما تقوم به أميركا سياسياً وعسكرياً وما تقوم به اسرائيل اقتصادياً في السوق العراقية. أما الجهات الأميركية والقريبة منها فردت بأن اتهام أميركا بالعملية هو مجرد "سخافة" مكشوفة. وعندها ان قوى راديكالية متطرفة "ارهابية" قامت بهذا العمل، وهدفها ضرب الشرعية الدولية وعلى رأسها الأممالمتحدة باعتبارها مؤسسة تمثل الحضارة الغربية "خصوصاً وأن قوى متطرفة ذهبت قبل ذلك الى حد اتهام الأممالمتحدة وأمينها العام أنان بأنه مجرد موظف عند دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع الأميركي. وأن المنظمة ككل تخضع لإملاءات الولاياتالمتحدة، في العراق كما في فلسطين. وعلى الحدود اللبنانية - الاسرائيلية. ثم جاء اعلان تنظيم "القاعدة" مسؤوليته عن هذا الهجوم ليشير الى الفاعل الحقيقي! لقد أكد حادث التفجير في بغداد مدى هشاشة الأممالمتحدة السياسية والأمنية وضعف فعاليتها على الصعيد الدولي. صحيح ما قيل عن أن الجريمة التي ارتكبت ليست جريمة بحق الأممالمتحدة وحدها، بل هي قبل ذلك جريمة بحق العراق. فالعراق بحاجة الى المنظمة الدولية لألف سبب وسبب ليس أقلها تقديم المساعدات العينية والمساعدة على الانماء، والقيام بدور بدأ يكبر ويصبح أكثر ضرورية وشمولية لاحتواء الوضع الصعب في بلاد الرافدين و"المساعدة على اعادة البناء السياسي والاقتصادي للبلاد" كما قال الأمين العام. وردّ مجلس الأمن على هذا التحدي بالقول: "ان المجلس لن يخضع للارهاب بل سيستمر في مساعدة العراقيين على دعم السلام والعدالة في بلادهم". كما ان هذا الحادث فتح الباب أمام طرح المسألة العراقية من جديد لدى مجلس الأمن بهدف اتخاذ قرار جديد في شأنها. وربما هذا ما يجري العمل عليه بهدوء وسرّية كي يأتي القرار كحل وسط بين التصلب "الاستفرادي" الأميركي، والرغبة الدولية في المشاركة في القرار والمسؤولية في آن. وقد يكون من نتائج ذلك ارسال قوات دولية الى العراق. نستخلص حول هذا الموضوع ان الأممالمتحدة تواجه وضعاً دولياً جديداً بل مستجداً بعد أحداث 11 أيلول هو وضع يناقض عملياً التوجه السائد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ففي عودة الى الذاكرة الدولية، فإن رؤساء الدول في المشاركة في مجلس الأمن عقدوا اجتماعاً استثنائياً في تاريخ المجلس كانون الثاني / يناير 1992 وطلبوا الى الأمين العام بطرس غالي آنذاك وضع تقرير يضمنه توصياته ومقترحاته "الآيلة الى دعم وتقوية دور الأممالمتحدة ومجلس الأمن بما يشجع السلم والاستقرار في العالم. وأن يتم حل المنازعات بين الدول على أساس الميثاق ومبادئ القانون الدولي". وقدمت في القمة اقتراحات لزيادة أعضاء مجلس الأمن بإشراك عدد أكبر من المنظمات والجهات والقوى الاقليمية والدولية. وفجأة تغير كل شيء مع أحداث أيلول... وذهبت الولاياتالمتحدة الى الخط المعاكس: العمل لإقامة نظام دولي جديد وأمم متحدة جديدة ومجلس أمن جديد وميثاق جديد... وفي أدنى الحالات ادخال تعديلات أساسية عليه لمصلحة القوى العظمى، وعلى رأسها، بل لوحدها، وهي الولاياتالمتحدة. يقول هنري كيسنجر في كتابه الأخير "القوة الأميركية الجديدة": "ان النظام الدولي الوستفالي نسبة الى معاهدة وستفاليا هو الآن في أزمة وموضوع على المحك في أسسه ومبادئه. معنى هذا ان مفهوم الدولة - الأمة، ومبدأ السيادة الوطنية للدول على اقليمها الجغرافي، يلفظان أنفاسهما الأخيرة. ولأن الأممالمتحدة قامت في ميثاقها على احترام هذين المفهوم والمبدأ فهي تتعرّض لتحدّ جودي وحقيقي في ظل القوة الأميركية الامبراطورية الجديدة! إنها موضوعة بكل تأكيد على المحك في العراق وفي مختلف أنحاء العالم!