احتاجت البشرية بعد حروب طاحنة متعددة أشهرها الحربان العالميتان الأولى والثانية، إلى قوانين ومعاهدات تخفف من معاناة الإنسان، بعد أن لقي ما لاقاه من ويلات ومآسٍ مزّقت كيانه الإنساني وشوّهته. ففي عام 1945، حشدت قوات الحلفاء المنتصرة بقيادة الولاياتالمتحدة، بريطانيا والاتحاد السوفياتي السابق المجتمع الدولي من أجل إنشاء منظمة من شأنها أن تعزز السلام وحقوق الإنسان، فجاء تأسيس الأممالمتحدة عبر الوثيقة التأسيسية التي وقّعت في حزيران (يونيو) 1945. ويُعتبر هذا الميثاق أعلى سلطة في القانون الدولي، ما يعني أنه يتجاوز أي معاهدات أو اتفاقات أخرى. وقد وقّعت عليه 51 دولة، وأدرجت بلدان عدة حقوق الإنسان في دساتيرها وقوانينها. وللأسف، وبدل أن نكون قد بلغنا مستوى مقبولاً من العدالة الإنسانية والاجتماعية سواء بين الدول، أو في الدولة الواحدة ما بين الأنظمة ومواطنيها، لا نزال نشهد في الوقت عينه صراعات وعنفاً ما بين الأنظمة ومعارضيها، مثلما نشهد ونعيش صراعات وحروباً تنتهك في كل لحظة ليس فقط حقوق الإنسان وسيادة الدول، وإنما حياتنا المعرّضة أبداً للموت المجاني والدمار الهمجي لمجمل مظاهر الحياة من دون أدنى اعتبار لإنسانيتنا، لاسيما تلك الشعوب الواقعة في بلدان لا تزال ضمنياً تحت نفوذ الدول الاستعمارية وسيطرتها في شكل غير مباشر(ومنها الدول العربية)، بدءاً من فلسطين التي ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي بكل سلوكياته الوحشية المعروفة، مروراً بالسودان وليبيا ولبنان والعراق، وصولاً إلى سورية والتي تشهد حرباً شرسة، في خرق فظيع ومروّع لمواثيق الأممالمتحدة وحقوق الإنسان برمتها، وعلى مرأى العالم ومسمعه من دون أن يحرّك هذا الواقع المأسوي ساكناً لدى المجتمع الدولي سوى الإدانة والاستنكار، وتقديم منح ومساعدات للملايين من اللاجئين والنازحين في الداخل والخارج. ويهدد بين الحين والآخر بقطعها لعدم وجود اعتمادات تغطي الحاجة الفعلية للأعداد المتزايدة من السوريين في ظل الحرب المستمرة، في حين نجد أن الدعم المالي والعسكري للأطراف المتصارعة مستمر بالتدفّق لتأجيج تلك الحرب إلى أمد مجهول، بحكم المصالح والسياسات الدولية المسيطرة على المنطقة. لقد شهدت الحرب السورية أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان بمختلف اتجاهاتها، كما انتهكت الطفولة السورية في شكل لم تشهده باعتقادي أعتى الحروب، والأرقام الدولية تشهد على هذا الواقع المرير الذي يُعانيه أطفال سورية في الداخل والخارج، ما أدّى إلى موت أعداد غير قليلة منهم، فضلاً عن البرد والجوع بحكم التشرّد والنزوح وفقدان المقومات الأساسية للحياة. وهذا الواقع بكل ما فيه خرق واضح وصريح لإتفاقية حقوق الطفل الدولية والإعلان العالمي لحقوقه من دون أيّ مساءلة أو محاسبة دولية نصّت عليها الاتفاقات المُلزِمة. كما واجهت المرأة السورية منذ اليوم الأول لاندلاع تلك الحرب أقسى الإهانات والانتهاكات من الموت والقتل والخطف والاغتصاب والاعتقال والزواج القسري لطفلات لم تتبرعم أنوثتهن بعد، إضافة إلى مقتل أبنائها وزوجها، أو اغتصاب بناتها أمام عينيها، وطبعاً الحديث يطول عن مجمل الواقع العنيف الذي تعيشه غالبية السوريات، وفي كل هذا بالتأكيد انتهاك واضح ورفض لمجمل ما جاءت به اتفاقية مناهضة العنف والتمييز ضدّ المرأة. كما أنه انتهاك خطير وشائن لاتفاقيات جنيف المعنية بحماية الأطفال والنساء والمدنيين زمن الحرب. إن ما شهده المجتمع السوري عموماً من خراب وتدمير وموت مجاني لم يُحرّك لدى المجتمع الدولي برمته سوى التنديد والاستنكار الضعيف من باب رفع العتب فقط، وحتى المجتمعات الإنسانية في عموم الدول لم تتحرّك في شكل كافٍ لرفض ما يجرى في سورية أو حتى في غزة- فلسطين، بينما وعلى مساحة المعمورة دان الجميع واستنكروا ما تعرّضت له ألمانيا ليلة رأس السنة من تحرّش جنسي طاول نساء، كما دانوا ما تعرّضت له فرنسا من هجمات إرهابية سابقة، وخرجت مسيرات مليونية مناهضة لتلك العمليات، وتطالب بمحاكمة المجرمين وبشدة لا هوادة فيها. بالتأكيد نحن نرفض أعمال الإرهاب والعنف في أيّ مكان من العالم، لاسيما حيال المدنيين والأطفال والنساء. لكن المؤسف في الأمر، والذي يزيد من حدّة قهرنا، هو الكيل بمكيالين لدى تعامل المجتمع الدولي والإنساني عموماً في أية قضية قد تطال الإنسان في دولنا أو غيرها من دول الغرب. وعلى رغم علمنا بالنوايا المضمرة للدول الكبرى والمجتمع الدولي، إلّا أنه قد اتضح وفي شكل فج وقذر وعلني أن الموقف الدولي من المسألة السورية هو موقف سياسي محض، وأن الدول الكبرى لا تريد لأزمتنا وحربنا أن تنتهيا ما دامت هناك مصالح لها تقتضي استمرارهما. وبعد كل هذا، وفي ظل وجود قانون دولي لحقوق الإنسان، يأتي السؤال الذي يفرض نفسه اليوم وبإلحاح: هل استطاعت كل هذه الاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات والعهود الدولية أن تصدّ الظلم والقهر والموت الذي يتعرض له ملايين البشر يومياً في أنحاء متفرقة من المعمورة وسورية ضمنها؟ هل فعلاً في إمكان تلك الشرعة أن تحاسب مرتكبي الجرائم المتعددة والمتنوعة على ما ارتكبوه بحق بشر لا ذنب لهم سوى أنهم ضعفاء أمام جبروت مجرمين؟ ألا يظهر للمجتمع الدولي عموماً، وللأمم المتحدة خصوصاً أن مجمل الشرعة الدولية بمعاهداتها وإعلاناتها ومبادئها واتفاقياتها كانت في مهب رياح الحرب في سورية؟ لقد أصبحت الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية، وفي مقدّمها الأممالمتحدة، أوراقاً مبعثرة في مهب رياح الأزمة السورية العاصفة، وذلك خدمة لمصالح دول لا تقيم وزناً لا للإنسان ولا لحقوقه التي ينتهكها رأس المال والمصالح السياسية والاستعمارية.