بعد أن أنهت أعمال بيتها الصغير؛ دخلت غرفتها وشاهدت المصباح اليدوي في يده، بينما هو ينزوي في نهاية الغرفة يثني جسمه ويرفعه بحركات تلازمه كلما انشغلت عنه. بهدوء دخلت وأخذته إلى سريرها لينام بجانبها.. عادة لا تأخذ المصباح من يده إلا بعد أن ينام.. تبسمت وهي تسأله: ألا تريد النوم الليلة يا محمد؟ كان الصمت هو الرد الذي تفهم من خلاله موافقته وأكثر حركة كان يمارسها دورانه في الغرفة دون هدف.. كثيراً ما تعلق الطبيبة على حالته بأنه أقل عدوانية، قبل أن تنهي حديثها قائلة: احمدي الله على ذلك. شعرت بأن شيئاً ما ينقصه.. لم يكن صعباً أن تعرف ذلك.. لقد تعلق بها كثيراً بعد انفصالها عن والده وهجرته خارج البلاد يتبع من حاموا حوله وحام حولهم. بعد أن جهزته لينام بدأت طقوسها الليلية.. أتعلم يا محمد؛ سمعت هذه القصة من أمي، قصة الذبابة التي سقطت في السمن. كانت كل ليلة تحكي له قصة وإن لم يكن مدركًا لها.. إذا انتبه دقيقة فلن ينتبه في الدقيقة التالية.. واستطردت في حديثها: ذبابة يحكى أنها سقطت في السمن فوجّه الزمان سؤاله للسمن: لماذا أغرقت الذبابة التي حطت عليك؟ قال: أنا السمن والشمس تذيبني. شرد ذهنها في سنوات عمرها التي ذابت وشاخت في انتظار الزوج وعندما أتى حدث ما حدث. حاولت إزالة فكرة التذكر فأكملت سرد قصتها. .فسُئلت الشمس: لماذا تذوبين السمن يا شمسنا؟ قالت: أنا الشمس والسحاب يحجبني. نعم لقد حاربت العالم لأجله ولكنه لم يعِ ذلك أبداً. كانت تحاول بين كل جملة تحكيها أن تمسك يده اليمنى وتضعها على شفتيها بينما اليد الأخرى تمررها عليه بحنو من رأسه إلى ظهره وهي مستلقية بجانبه متكئة على جنبها الأيسر، وهو يشخص ببصره تارة لسقف الغرفة، وأخرى لمكان آخر ليس وجهها. أكملت وهي تردد: السحاب.. السحاب يا محمد.. ذلك الغيم الأبيض مثل صوف الخروف. رد السؤال إلى السحاب فقال معلّلاً فعلته: أنا سحاب والريح تفرقني. عوت الريح وهي قادمة لكي ترد على سؤال الزمان: أنا ريح والجدار يعترض طريقي. كانت تريد أن تقول بصوت مسموع حتى لو وصل إلى مسمع ابنها الذي لن يرد: لقد فقدت الأمل في أن يفرق والدك بين الصديق والعدو، حتى أقرب الناس اليه كانوا ينظرون لمصالحهم معه. سمعت أنين ابنها..ضمته بقوة، وأكملت سرد القصة محاولة دفع محمد بصوتها الحاني همسًا لينام قرير العين. ومضت في حكايتها: وعندما حان دور الجدار ليبرر فعلته قال: أنا الجدار ولكني لا أقوى على فعل المسمار إنه يثقبني. تخيّل يا محمد مسمار صغير يثقب جداراً يقف في وجه الريح.. هكذا هي الحياة يا بني. شرد ذهنها بعيداً فصمتت.. توالت في ذاكرتها جميع الأحداث والصراعات، ثم نظرت اليه وهي تواسي نفسها: ستكون لك كلمتك يوما وسترى. أسرّت بها لنفسها وهي تقبّله على جبينه وقد لاحظت سقوط المصباح من يده وارتخائها؛ فأكملت: وعندما حان دور المسمار ليبرر هذا الفعل الشنيع قال: أنا مسمار ضئيل لا حيلة لي أمام الحداد الذي يطرق على رأسي. ذهب الزمان وهو يسأل أين الحداد؟ فرد الحداد وهو يطرق الحديد.. أخذت الأم نظرة خاطفة على محمد فوجدته قد أغمض عينيه.. عندما رأت ملامح وجه ابنها رفعت بصرها لسقف الغرفة تنحشر بين حناياها أدعية لم تستطع ترتيبها.. سقطت دمعة، واضطجعت جوار ابنها وهي تكابد آلاماً كثيرة.. فتحت جوالها وجدت رسائل عديدة.. من بين كل الرسائل فتحت رسالة صديقتها مريم لترى صورة وتعليقا مفاده كشف الحقيقة والإفراج عن والد ابنها بعد أن دب الخلاف بين المتآمرين عليه واعترف أحدهم ببراءته. رجعت أم محمد إلى قصة أمها لتنهيها مع نفسها وهي تقول: وما كانت الشمس و السحاب و الجدار والحداد؛ إلا فواصل حكاية، وأسبابًا بين يدي ضياء يشرق غدًا.