في كل غرفة معزوفة مختلفة للمواجع.. آهات.. وأنين.. ومواويل من الصراخ أنا هنا في غرفتي الصغيرة كأن جغرافيتها الجدار يحده الجدار.. أنفاس ديسمبر في جوف غرفتي شتاء قارس، لا يعرف أن يطعم الليل بمنقاره الطويل أفراخ أضلعي الجائعة لقمة دفء.. ضجيج الصمت يملأ غرفتي، والكآبة تملأ نفسي.. صمت رهيب، يكاد يكون صوت كل شيء هنا لولا نغمات رتيبة من جهاز (vital signs monitoring جهاز القلب يعمل كالطبال والبرق الأحمر يتراقص على بياض سريري... وألصقت ورقة بيضاء على السرير، كتب فيها اسمي Mohamed بالحروف اللاتينية، كأني حين أقرؤها أصدق أنه ليس اسمي. أنا هنا في غرفتي الصغيرة. لها نافذة تطل على الحديقة، وقد سكنتها حمامة بيضاء جميلة، أنا سعيد بها؛ لأنها لا تخافني، أسقيها الماء إذا شربت، وأطعمها الخبز إذا أكلت... وفي الليل أقاوم من أجلها ربابة ألمي حتى تهنأ في نعيم نومها ورغد أحلامها... الليل يمضي وعيوني داهمها السهد.. كيف لي أن أنام والقلب متعب وموجوع، والذاكرة تعيد رسم حطام أحلامي على وسادتي شوكًا ينغرس في إغفاءة خاطري فيدميني. أنا هنا في غرفتي الصغيرة وقد تساقط الظل في أركانها... أشد ما فيها عتمة هو وجه المصباح الذي يضيء ولا يضيء غرفتي.. قارب صغير في عرض بحر الليل.. صمت الموج فيه أشد من تلاطم أمواج محيط واسع وبعيد... غرفتي قارب صغير، وأنا بحار وحيد، ولا مجاديف لدي، وشراع ممزق، أشعر بأن شهية الغرق تكاد تفترسني... أنا وقلبي أسيران في قارب موحش، ولا قدرة لدي أن أبدل الليل بالنهار.. عقارب الساعة تلدغ شيخوخة الظل؛ فتتساقط من يديه بذور منامات جميلة، تمنيت كثيرًا أن يزرعها ما بين الجفون والجفون أنا هنا في غرفتي الصغيرة اعتدت أن أرى صديقتي منيرة الممرضة المسؤولة عني وقد تأخرت، لا بأس لعلها على وصول الساعة الثانية من صباح يأتي قبل الفجر. تسللت منيرة بهدوء تظن أنني نائم «آه محمد لم تنم بعد.. صباح الليل يا غالي؟ جسمك يا صديقي يحتاج إلى الراحة وقد اقترب موعد عمليتك open heart surgery « القلب المفتوح ألا تغار من جارتك الحمامة ها هي في النافذة نائمة نومها العميق. نظرت إليها وقلت «كيف لي أن أنام إن أغمضت عيني أبصرت أعماقي... وأعماقي كوكب آخر، لا تغيب عنه شمس الغروب، حتى أماكن من رحلوا عني أشد هذه الكوكب ازدحامًا.. يا إلهي، خطوات رحيلهم تركت وشمًا يتحول أحيانًا إلى جراح ونزف». تنهدت منيرة والدمع الزجاجي يملأ عينيها بالبريق الندي، وقالت: صديقي محمد يا أعز الناس أنت... أنا منذ التقيت بك هنا منذ أربعة أشهر وأنا أشعر أن قلقك والضجر الذي فيك.. والألم العميق داخلك ليس بسبب مرض قلبك اليوم.. بل بسبب عافية بالأمس أصابتك ولم تشف منها بعد. «منيرة يا أليفة خاطري يا زائرة الليل، قلبي عصفور يرتجف من ألم جناحه المكسور... كل عصافير الدنيا في هذا الليل نائمة إلا قلبي متعب ومسهد ويائس وجريح». قامت منيرة وأحضرت لي كأس ماء، وقالت «أشرب، أنا ممرضة لمئات المرضى في هذا المستشفى الكبير، وأشعر أنني أخدمهم بطمأنينة وراحة ضمير إلا أنت يا محمد، أشعر أنني مقصرة في حقك!! لأن الألفة التي تجمعنا جعلتني أشعر أني أكثر ألمًا منك ليتني.. أعرف قصتك بعض فصولها التي فيها انجرحت... بعض سطورها التي فيها احترت كي أخفف عنك لو كان لي يا قرة عيني قدرة أن أسلبك ذكرى مؤلمة أعيشها أنا وتنساها أنت لفعلت... قسمًا بربي لفعلت!!!» وصمتت منيرة... وأطرقت أفكر بروعة الإنسان الذي يسكنها، وصحوت على ضحكتها بصوت مبحوح، وقالت: «أيها الساهر أنت ... أريد أن أقول لك شيئا عني وعنك، لست أدري أيسعدك أم يسوؤك لأني فيه متناقضة»... تبسمت حائرًا متوجسًا، أريدها أن تقول ولا أريد. قلت «زائرة الليل أيتها الفيلسوف، قولي، حدثيني، ولا تتردي لأني أحب في أليفي كل شيء حتى تناقضه»... ضحكت منيرة، ونظرت إلى الحمامة النائمة في النافذة الصغيرة، ثم اقتربت منها وهمست لها: «كوني شاهدة على أن جارك محمد وعدني أن لا يغضب من فكرتي...». قلت لها ممازحًا: منيرة الحمامة نائمة، وهل سيقبل القاضي شهادتها؟ قالت : محمد، هل تعلم أنني في نهاية دوامي كل يوم وقبل أن أنصرف أفتش في حقيبة يدي كأنني (ضابط بوليس)؛ لأتأكد من محتوياتها التي دائما ما تكون.. قلمًا كحليًّا.. ومرآة صغيرة.. وصورة أمي.. ومفاتيح بيتنا، ودفتر عناوين وهواتف صديقاتي.. بطاقة الصراف.. وقطعًا صغيرة من حلوى النارجيل التي أحبها. أتعلم يا صديقي لماذا؟ لأني أريد أن أغادر المستشفى وأعبر البوابة الكبيرة وأنا متيقنة أنه لا شيء منك معي!! ولكن حين أصل إلى البيت وأجلس في غرفتي أجدك معي.. خيالك.. حديثك.. أنينك أتذكرك وأنا أتمنى أن أنساك..!! يا إلهي، كيف هذا الفشل لي في كل لحظة بعيدة عنك أجده يسرني.. قلت لها: «منيرة، هذه فلسفة، كيف لإنسان يتمنى أن يهرب من فكرة ويسعد بخيبة أمل وفشل!!». قالت: «لا.. لا يا صديقي، هذا واقع قلبك (المعطوب) يا سيدي سجان ماهر جعلني أشعر أنني حرة طليقة في رحاب زنزانته!». نظرت إلى ساعتها، وقالت «انتهى درس الفلسفة، وبدأ درس الطب. هذا وقت تناولك الدواء». حملت لي كأس الماء بيد اهتمامها... أخذت الدواء، وغطتني باللحاف جيدًا، وقالت: لعلك تنام، وغدًا لقلوبنا لقاء. أطفأت نور الغرفة، ومضت بنورها. المساء التالي... أنا هنا في غرفتي الصغيرة الساعة الواحدة من صباح يأتي قبل الفجر.. ولم تأتِ منيرة بعد. لست أدري أهو الشوق لها أم الخوف عليها جعلني أترقب وصولها؟؟ ألم خوفنا على من نحب أشد قسوة من ألم الحنين إليه.. ربما هو الاحتياج قلبي يكاد في منتصف هذا الليل أن يفقد قدرته على الكلام وأنا وحيد مع ثرثرة صمتي ونعاس جارتي الحمامة. وتدخل منيرة عليّ، وحين رأيتها ضحكت عيناي، وشعرت بكثير من الطمأنينة والارتياح. قالت: السلام عليكم «يا قيس» أجبتها.. عليكم السلام يا زائرة الليل. أنا محمد.. محمد «لا قيس». قالت «تأخرت في مجيئي إليك.. لأنني أحببت أن أنجز جميع أعمالي حتى أتفرغ لك.. مازحتك وقلت لك يا قيس. أرجو أن لا أكون قد تجاوزت بمزحتي هذه حدودي، خاصة أن (قيس) كان رمزًا لحب مؤلم وفاشل». تبسمت لها وقلت: يعجبني اسم قيس، وعندما أقف أمام المرآة أشعر أنني أنا «قيس بلا عمامة».. أحد أصدقائي في الجامعة قال لي: «إن الحب الفاشل هو الحب الخالد». قالت منيرة: «للأسف صدق صديقك في مقولته.. أحلام الحب والكوخ والطيور الصغيرة وليالي السمر وتوسد ساعد أنثى تحبها كلها تترمد وتبقى جمرة صغيرة من هذا الحب تقتات من مشاعر الإنسان يأسًا ولوعة فراقًا وحنينًا صعبًا وضياعًا!». قامت منيرة بعد أن أنهت حديثها كأنها تريد أن تغير حديث الشجن، ومن حقيبة كبيرة معها أخرجت القهوة وقطعة من الكيك، وقالت: هذا كيك أمي وقهوتها عملتها خصيصًا لك، وهي تسلم عليك. «أمك يا منيرة تسلم عليّ!.. هل هي تعرفني؟». قالت «طبعًا، سمعت عنك كثيرًا بل رأتك! سمعت مني، وحدثتها كثيرا عنك، وسمعت اسمك في دعائي لك في صلاتي، وأصبحت أنت سؤلها الأول كل ما قبلت يدها وجبينها عائدة من المستشفى تقول: كيف حال مريضك محمد؟». قلت «يا منيرة جزاها الله خيرًا. انتهينا من لغز السماع، ولكن أين رأتني؟». قالت منيرة : «آه يا محمد، أمي تراك في عيني اللتين تفضحان سرًّا يختبئ في الجفون». قلت لها: «يا صديقتي، رومانسيتك مذهلة. أنا أحيانًا أكاد أخفي عيني عن عيون الآخرين حتى لا يروا شمسًا يعرفونها تتمدد من الأهداب إلى الأهداب!». بدأنا نأكل الكيك ونشرب القهوة العربية، وقلت لها: يا منيرة، أمك ماهرة في الطبخ، أرجو أن تكوني مثلها. فجأة منيرة تقول: كنت قبل قليل في «مركز التمريض» أقرأ في كتاب ألغاز. أتعرف هذا الكتاب يا محمد؟ قلت لها: كتاب ألغاز؟ لا أنا لا تستهويني كتب الألغاز والتسلية. قالت منيرة بصوت مبحوح يقاوم عبرتها: هذا الكتاب هو «ملفك أنت»!!! استعرضت ملفك الطبي from a_to z لأبحث فيه عن سر حزنك.. عن تلك المرأة التي تجذرت في حياتك حتى تخيلت أنني سوف أرى صورتها الساحرة في الإشاعات التي عملت لقلبك ورأسك وحنايا ضلوعك... بل في تحليل دمك. أريد أن أعرف أين اختبأت هذه الفاتنة داخلك...! منيرة.. أهاااا.. أهذا هو اللغز الذي بحثتِ عنه؟ هاأنت يا عزيزتي تبكين بالتأكيد، ليس هو الفضول الذي يجعل جنون خيالك يقودك إلى فكرة تتنافى مع كل ما درست في الطب وخبرتك الطويلة في العمل في هذا المجال. أنا لا أريد لإنسانة رقيقة مثلك أن تتأذى بسببي وتنجرح مشاعرها.. ليتك ما فعلت ذلك. قالت: «يا أليف خاطري، أظنك اعتدت تناقضي، وأنا فعلت ذلك لأن محمد إنسان رائع، يستحق الحب الناجح الذي لا يعرف الانكسار ولا الجراح ولا الدموع ولا النظر في دروب ذهاب بلا إياب!». قلت لها: منيرة، أنا أود في هذه اللحظة أن أهرب بك من فيض حرمان هذه الفكرة بعد أن أجيبك يا غاليتي. العنوان الكبير لرواية العمر (التضحية) وهذه لن يسمعها طبيب حتى ولو وضع سماعته على صدري العاري، ولن يجدها في أشعة ضوئية أو صوتية، ولكن تذكري دائمًا أنني راهنت على حلم بائس كبير أن «التضحية تقتل الحب أحيانًا».. كيف تكون «أحيانًا» أطول عمرًا من «غالبًا»!!! وما إن انتهت رعود كلامي حتى أمطرت سحابة منيرة بالبكاء. منظر مؤثر أن ترى إنسانًا يبكي لأجلك أنت؛ فيزيد من جرحك جرحًا! تنهدت منيرة، ثم همست «اعذرني يا صديقي إن أنا في آخر هذا الليل نكأت لك جرحًا من نهار. أردت أن أهدهد جرحك من أجلي أنا.. قبل أن يكون من أجلك أنت.. أرأيت أنانية من يعطي كيف تكون مختلفة عن أنانية من يأخذ؟». ثم قامت منيرة لتغادر المكان وقد بدا عليها الإرهاق، فقلت لها: حوار القلوب يا منيرة يؤثر فينا. سلمي على الوالدة واشكريها على الكيك، ما أروعها من امرأة وقد أنجبتك. قالت منيرة: هل زارك الدكتور عادل اليوم؟ قلت: نعم، وبعد غد موعد العملية إن شاء الله. فقالت: اطمئن، كل شيء - بمشيئة الله - سيكون على ما يرام. أغادرك الآن، وغدًا لقلوبنا لقاء. أطفأت منيرة نور الغرفة، ومضت بنورها ليلة العملية الجراحية أنا هنا في غرفتي الصغيرة.. تحضر الممرضة «ليندا»، وتعلق لوحة NPO؛ كي أمتنع عن الأكل والشراب.. وقالت: عليك أن تصوم. قلت لها: حسنًا سوف أصوم بعد أن أودع فنجان قهوتي السوداء. حضّرتُ القهوة ونكهتها من «بن هواجسي»، وجلست على الكرسي المجاور للنافذة التي تنام فيها حمامتي أحتسي قهوتي، وأنظر إليها كأني أودعها، يا جارتي إني أعشق هديلك، وأطرب له رغم أنه يشجيني. كنت أخاف عليك أن تتعلمي مني معزوفة الأنين والآه؛ فيتبدل هديلك الجميل بالنواح.. أربعة أشهر ليالي طويلة أمضيتها معي.. لا لغة بيننا إلا أنك خففت من إحساسي بالوحدة غدًا في الصباح الباكر، كلانا سنغادر هذا المكان، أنت إلى صدر نخلة وظل وردة وإلى جدول ماء تسبحين فيه، وتشربين منه.. وأنا سوف أنام هذا النهار في غرفة باردة، ولعل مساء آخر يجمعنا. الساعة الثانية من صباح يأتي قبل الفجر جاءت زائرة الليل منيرة وهي الماهرة في التمثيل؛ إذ دخلت مبتسمة مبتهجة، لكني أعلم أنها تتصنع البهجة؛ لتصنعها لي، لا تريدني أن أخاف أو أقلق من العملية. قلت لها: صباح الليل يا زائرة الليل قالت منيرة قل: صباح الإجازة قلت لها: أنت في إجازة!!! قالت: «نعم اليوم وغدا فقط من أجل أن أكون معك». أشكرك على هذا اللطف منك وحنانك الذي بقدر ما يسعدني يشقيني». قالت «قبل أن أنسى، أمي تسلم عليك وتدعو لك، وسوف تزورك بعد العملية». تنهدت وقلت «آه يا لولوة! لو كنت معي».. فصرخت منيرة «من هي لولوة؟!!» فأجبتها بصوت خافت: «هذه أمي - يرحمها الله - في مثل هذه الليلة كان وجودها يعني الكثير.. تتألم من أجلي لكنها لا تبكي عندما تعلم أن دموعها ستزيد من اشتعال ألمي. كانت أمي في مثل هذه الليلة الصعبة تستطيع أن تعيد لي طفولتي.. وتروي لي حكاية قبل النوم التي لا أتذكر يومًا أني قد سمعت نهايتها.. أغرب ما في الإنسانة لولوة أن الحب الذي يضعف الإنسان يقويها من أجل من تحب (حنانها الصعب) كان يبهرني!!» قالت منيرة: غفر الله لها.. أتسمح لي بهذا السؤال: ما هو حنان لولوة الصعب؟ قلت لها أمي وإن غضبت أو عتبت على أحد أبنائها يظل معطف حنانها هو الدفء الحقيقي الذي يروم ضلوعه. قالت: «محمد ليس لنا عندما نفقد أحبابنا إلا الدعاء. حاول الآن أن تسترخي قليلاً، وإن أردت شيئًا أنا جالسة بجوارك على الكرسي الكبير». «حسنًا منيرة، سوف أحاول أن أنام». الساعة السابعة صباحًا يحضر الدكتور عادل والدكتور أنس وبقية الفريق الطبي وقد ارتدوا الملابس الخضراء وقبعات البلاستك... قال الدكتور عادل: كيف المعنويات يا محمد؟ قلت له: الحمد لله عالية. رضا ربي أهم من سلامتي... قال الدكتور: الحمد لله، وهذه الممرضة منيرة ألحت كثيرًا كي تشاركنا في غرفة العمليات، وهي على كفاءة عالية لهذا وافقت.. والتفت إلى منيرة قائلاً أحضروه إلى غرفة العمليات، وهناك نلتقي. وغادر مع مساعده الدكتور أنس... بدلت ملابسي، وارتديت الروب الكئيب... تمددت على السرير، وأثناء السير كنت أقرأ سورة الفاتحة حتى وصلت إلى الآية (ولا الضالين).. وسمعت صوتًا خافتًا يقول «آمين»... إنها الطيبة منيرة، وضعت يدها على جبيني، وقرأت آية الكرسي... وهمست في أذني «يا قرة عيني، لا تخف، سوف أكون بجوارك، والله معي ومعك»... وأثناء السير بي ناديت على منيرة نداء أقرب إلى الرجاء، وطلبت أن يتوقفوا، وقلت «منيرة أريد أن أطلب من شيئًا».. قالت «لك مني كل الدلال». قلت «افتحي ستارة نافذة هذا الممر، أريد أن أرى الشمس وإشراقها»... أزاحت منيرة الستارة عن النافذة، وجلست أتأمل ضوء الشمس وقد تساقط على عشبة ووردة ولون كل نخلة، وتسلق الضوء المباني، وانعكس لكل شيء ظل... ولوحت بيدي لحمامتي رغم تجاهلها الجميل لي... منظر مهيب، كأني أقرأ من أوراق فيها أسراري، أتهجى حروفها حتى لا يسمعها غيري. قلت يا منيرة: «لا تعجبي من طلبي هذا.. لأنني في هذه اللحظات أتخيل أن بعض ضفائر الشمس تطل على امرأة أخرى نائمة في مهد الضحى... وامتدت الضفائر الدافئة إلى مخدعها الوثير حتى جاءت على سريرها... على وسادتها... على عقد اللؤلؤ الذي تزينت به... وعلى ساعة الماس المهملة على منضدة بجوارها... بل إن الشمس مشرقة في إشراق وجهها...قد يذوب النوم بين أهداب عينيها الكحيلة، ويتبقى منه ترف النعاس وكسل غنج ودلال لن يسمح لذاكرتها أن تلوح بطيف إنسان بعيد... أو تنطق باسمه هذا الإنسان هو أنا... أنا يا منيرة الذي يقاد إلى غرفة باردة وموحشة، لا تتسلل إليها الشمس، هناك في غرفتها رائحة العطور الفرنسية تعطر الحرير وتعطرها، وهنا أنا في غرفة رائحة العقاقير والأكمام والبنج والمسكنات تتزاحم بين مفاصل جسدي وثوبي... ويحيط بي المتلثمون... حتى أنت يا منيرة سترتدي اللثام مثلهم كأنكم في (حفلة تنكرية)... لن تتذكر الناعسة الحسناء رجلاً يذبح من قلبه ويستباح نبضه وخفقاته... ويغزى ميناء رست فيه مراكبها ومنه وعنه رحلت!!. قالت منيرة «يكفي محمد، لقد أوجعتني يا أعز الناس أنت... علينا أن نسرع إلى غرفة العمليات، دكتور التخدير إبراهيم بانتظارنا... كن شجاعا ولا تخف». تبسمت لمنيرة، وقلت لها «انتبهي أثناء العملية أن يجرح مشرط حبيبة أو صديقة أسكنتها قلب خمس نجوم». دخلنا إلى غرفة التخدير حيث كان الدكتور إبراهيم بانتظارنا. أمسك بيدي وقال «أتحداك تعد لي من واحد إلى عشرة». بدأت العد، وفي الثانية الخامسة دخلت في سبات أظنه بلا أحلام!! *********** بدأت العملية، وانغرس مشرط الجراح النافذ في صدر محمد، وكانت منيرة بجوار الدكتور عادل، وبدأت ترتجف من الخوف، وبدا عليها الارتباك والإعياء، وقد لاحظ ذلك الدكتور عادل، فنظر إليها وقد اغرورقت عيناها بالدموع.. ابتسم لها، وأمرها بأن تخرج.. وضعت يدها على جبين محمد، وتمتمت بآيات ودعاء، وخرجت؛ لم تتحمل المشهد... جلست على كرسي انتظار أمام بوابة غرفة العمليات، قلبها يكاد يتوقف من الخوف... تنظر إلى ساعة يدها ما بين لحظة ولحظة... بدأت الساعة بطيئة وثوانيها كسيحة... وفجأة رأت امرأة عجوزًا، أقبلت عليها، وعندما اقتربت منها كشفت عن وجهها... وإذ هي أمها أم منيرة. في هذه اللحظة عادت منيرة طفلة، عمرها خمس سنوات، وركضت إلى أمها تريد أن تهرب من سعير الخوف إلى جنة حضن أمها... كطفلة تائهة ومجهدة رأت أمها أمامها... احتضنتها الأم باكية، وأخذت تقبِّل ابنتها، تريد بيدها الأسفنجية أن تجفف دمعها، وأخذت تمسح بحجابها دمعًا كالبلور تناثر في وجه منيرة، وتردد في مسمع طفلتها الكبيرة «بسم الله عليك... بسم الله عليك... سيكون محمد بخير بمشيئة الله، وسيشفى»... وبدأت منيرة بالكلام وهي ملتصقة بصدر أمها «أمي الحنون، لم أستطيع أن أكمل مشاركة الجراح في العملية، كان الموقف صعبًا جدًّا، وأمرني الدكتور بالخروج»... «أمي المنظر الذي أرعبني لم يكن الفتحة الغائرة في صدر محمد وارتعاش القلب الطاهر السابح في الدم أمامي....» قالت الأم «منيرة، إذًا ما المنظر الذي سبب لك كل هذه الفجيعة؟». قالت منيرة وقد زادت نوبة البكاء «منظر عينيه... عينا محمد المغمضتان حقًّا أمي عندما نخاف على من نحب تحدثنا عيونهم النائمة قسرًا عن يقظة مشاعرنا تجاههم... أمي لا تعتبي علي أنا طفلتك الكبيرة... متعبة وأهذي كأني عجوز عمري ثمانون سنة... أمي، هذا محمد بالنسبة لي ليس كأي إنسان... أمي محمد حبيبي... وصديقي... وأخي الذي لم تنجبيه قط... كل هذه المعاني قالتها لي عيونه المقفلة بسلاسل الحقن والعقاقير...». قالت الأم: «يا منيرة، اهدئي يا بنتي، بضعفك لا تقوى عافيته، ولكن بدعائك له، أسمعيني ابنتي الغالية يا حياتي أنت.. ستنجح العملية، ولكن...». وسكتت الأم ولم تكمل. رفعت منيرة رأسها عن صدر أمها، ونظرت إلى وجهها تتوسلها «ولكن ماذا؟ أرجوك أكملي حديثك أمي...». أعادت الأم رأس ابنتها إلى صدرها، وهمست لها «في طب الحياة ربما تنجح العملية ويفشل الحب...». قامت منيرة وقبلت أمها، ثم جلست على المقعد المجاور لها، وقالت «كلامك يخيفني، لكنني سأشرب كأسي مهما كان مذاقه ولو كان علقمًا؛ لأنه قدري... المهم أن تنجح عملية محمد، وأن يسعد هذا القلب الذي أحببت»... في هذه الأثناء خرج الدكتور عادل ومعه الدكتور أنس من غرفة العمليات، ونظر إلى منيرة وهي تترقب حركة شفتيه فقال لها «الممرضة منيرة أبشرك عملية القلب المفتوح لمريضك بفضل الله قد نجحت... نقلناه إلى غرفة الإفاقة... ولن تستطيعي رؤيته الآن. في المساء سيكون قد أفاق، ويعود إلى غرفته في جناح الجراحة». صرخت منيرة من شدة الفرح، وصارت تحضن أمها وتردد «الحمد لله، العملية نجحت». الطبيبان عادل وأنس مندهشان من هذه الفرحة الهستيرية للممرضة منيرة... فرحة فسرت لهما سر اضطرابها داخل غرفة العمليات... قال الدكتور عادل «منيرة، المريض محمد يحتاج إلى مرافق، ابحثوا في ملفه عن هاتف أهله؛ ليحضر أحد منهم لمرافقته... وقد أوصيت بذلك، أرجوك نسقي مع الأخصائي الاجتماعي». قالت منيرة بنبرة عالية «لا يا دكتور، لن نتصل بأحد من أهل محمد، أنا سوف أكون مرافقة له»... قال الدكتور أنس «الدنيا لا تزال بخير، وهو محظوظ بك... دكتور عادل هيا بنا». قالت منيرة «انتظرا، نسيت أن أعرفكما بهذه الجميلة التي معي، إنها أمي التي من حنانها العذب ما فطمت ولن...». صافحاها، وقال الدكتور «يا أم منيرة، يجب أن تكوني فخورة بابنتك بضعفها... برقتها... بعفافها... بكفاءتها... ما رأيت ممرضة تهتم بمريض مثل اهتمام منيرة بمحمد، منحته معنوية عالية في بداية العملية، ثم أصابها الخوف الشديد عليه!!! وأظن محمد استحق هذه المشاعر نحوه». قالت الأم «ابني الدكتور عادل، داخل أسوار المستشفى يجب أن تخضع قلوب وعقول جميع العاملين لدستور أخلاقي لإسعاد مرضاهم... أنا فخورة بكم... وفخورة جدًّا بمحمد... لأنه نموذج للمريض الذي يداوي طبيبه، ويمرض ممرضته... عندما أتأمل بعض المواقف التي حدثتني بها ابنتي عنه أجد أنه يملك صيدلية عاطفية، ليس شعارها (كأس وثعبان)، بل شعارها (كأس وإنسان)». قال الدكتور عادل «والدتي، حديثك ممتع ومفيد... سعدنا بك. نستودعك الله». التفتت الأم إلى ابنتها منيرة التي يملأ السرور وجهها، وقالت «هيا بنا إلى البيت كي تنامي، ونتناول طعام العشاء باكرًا كي تعودي إلى المستشفى في المساء لمرافقة محمد في غرفته العادية. وحاجته لك أعلم أنها تسعدك... هيا بنا إلى البيت». في غرفة الإفاقة... أنا هنا قد أفقت وإذا بالدكتور إبراهيم أخصائي التخدير بجوار سريري يبتسم وهو يقول «الحمد لله، نجحت عمليتك وتجاوزت مرحلة الخطر.. والآن يا محمد وصلت بالعد إلى خمسة أكمل». كانت مداعبة الدكتور لطيفة، لا أستطيع أن أتجاهلها؛ فأكملت له العد بحركة أصابعي. نظرت للممرضات من حولي. قالت الممرضة لندا «أعلم عمن تبحث عنه، الممرضة منيرة، لا تتكلم كثيرًا، هي الآن في غرفتك تنتظرنا، وقد فرغها الدكتور عادل لتكون مسؤولة عنك وحدك». شعرت بشيء من الطمأنينة والارتياح رغم ألم جراح العملية... عدت إلى غرفتي التي أعرفها وتعرفني. كانت منيرة قد ملأت المكان بضياء عينيها، وبدفء ألفتها... كأن الغرفة قد أعلنت استقلالها عن الشتاء... قالت منيرة «أهلاً وسهلاً... الحمد لله على سلامتك». وضعوني برفق على سريري، وقد عطرت منيرة الغرفة، وأحضرت لحافًا جديدًا... ووسادة جديدة... نظرت إلى النافذة وإذا هي خالية... نظرت إلى منيرة وفهمت ما أريد، وقالت «الحمامة!! لعلها هاجرت من هنا ولم تهجرك». قلت لها «أهذه غرفة في مستشفى أم في فندق... لقد تعبتِ من أجلي كثيرًا». قالت «يا صديقي لو لم نكن في مستشفى لوضعت أغنية من أغاني نجاة الصغيرة التي تحبها». «آه يا منيرة أغاني الزمن الجميل..». لاحظت وجود باقتي ورد... قلت ممن هذا الورد؟ قالت باقة الورد الأبيض مني ومن أمي. ناوليني بطاقة الإهداء التي معها... وقد كتب عليها «الحمد لله على سلامة قلب ألفناه»... «شكرًا لكم على هذه اللمسة، هذا الورد قد يذبل في اليوم التالي ولكن هذه العبارة ستظل متفتحة في بستاني الداخلي، وسوف أسقيها لتبقى ويبقى أريجها يسعدني ويشجيني». والباقة الثانية مَنْ أحضرها؟ قالت منيرة «أحضرها صديق لك اسمه (حمد إبراهيم)، أعتقد أنه رومانسي، وردها الجوري يحاصر قليلاً من الياسمين. قلت «أليس معها بطاقة؟» قالت «معها ورقة مطوية كرسالة لم أفتحها... قلت يا منيرة «ناوليني الورقة»... وبعد أن قرأتها بصمت قلت اسمعي ماذا كتب صديقي حمد: «أخي محمد... لم يكن القلب الذي خضع للعملية يخصك وحدك... بل يخصني معك... في مواقف عديدة شعرت أن قلبك بيتي... إن شردتني الحيرة أتيتك بكل حيرتي فبددتها، وإن أتيتك مهمومًا سلبتني أكثر هذه الهموم وأبقيتها معك... أنا وأنت يا محمد نفرح معًا، نتألم معًا، ونحزن معًا، حتى حين أبتعد عنك وألقاك أجدك تنحاز لي وتتناسى معنى أن تحتاجني حولك فلا تجدني... ملاحظة: أحتفظ بحقي بقبلة على الجبين... صديقك حمد إبراهيم». قالت منيرة «كلمات صديقك حمد مؤثرة... أشعر أنه يشبهني... أنا طيلة الليالي التي أمضيتها معك بحت لك كثيرًا عن متاعبي ومواجعي وبعض من همومي، جعلتك تتسور ذاتي حتى خفت أن أفقدها، لكنك يا قرة عيني (لص أمين)، معك أصبحت أسراري مهما تعرت تظل في لباسها الساتر... محمد أنا مدينة لك... وأخاف عليك من ذاتك لا منك، أنت كتوم جدًّا، ورغم صدقك حين أراك تضحك، أشعر أنها رقصة الديك الذبيح، همومك وأسرارك أنت هي أمنيتي أنا... لأني في لحظة أشعر أني أقرب إليك منك، وعندما أصحو من هذا الوهم أجد أن الحواجز بيننا عالية... لم أخفف عنك ألمًا... لم أواسِك بحزن.. لم أُنسِك أمسًا مظلمًا، كأنك لا تريد أن يلتئم لك جرح... يا صديقي، لنكتفِ هذه الليلة بالبوح، حان موعد الدواء، وحاول أن تنام... وأنا سوف أنام على المقعد بقربك، ولكن لن أنام قبل أن تنام أنت». حسنًا يا صديقتي، تصبحين على خير... وبعد مضي أسبوع من العملية الدكتور يأذن بالخروج من المستشفى الليلة الأخيرة... ليلة الوداع أنا هنا في غرفتي الصغيرة غدًا سوف أغادر المستشفى قالت منيرة «أنا سعيدة بعافيتك... هذه الليلة تختلف عن بقية الليالي الماضية... ماذا تسميها يا محمد»؟ قلت لها «هذه الليلة هي بنت الأيام، وهي من أسمتها (الليلة الأخيرة) لا أنا. ليلة باردة وموحشة. ماذا عنك أليفة خاطري؟ ماذا تسمين هذه الليلة؟». تنهدت وقالت: كنت أخاف من هذه الليلة عندما يحل كل مساء جديد.. أخاف على نفسي من ظل الوحدة حين لا يشرق بيننا ليل جديد... أنت يا محمد تقول عنها الليلة الأخيرة... أما أنا فأسميها الليلة الأولى... أجل الليلة الأولى، اسم لا يتناقض مع تسميتك!!!!! قلت كيف يا صديقتي...؟ قالت: آه سيدي، لا فرق بين لقاء يغرق وفراق يولد!!!! حقًّا أيتها الغالية لا فرق... أنا في هذه الليلة أجد نفسي وإن تعافيت في قلبي إلا أنني سأفقده هنا... سيظل منومًا بدون سرير... ومريضًا بلا طبيب... لو بحث الناس عنه لن يجدوه في غرفة العناية المركزة ولا في أجنحة الجراحة أو الباطنية أو العظام، ولا حتى في جناح الأطفال... رغم أن قلبي الذي تركت لديكم طفل أبيض جميل!!!! قالت منيرة والعبرة في عينيها «قلبك الطفل الذي تركت بيننا هو لنا... بكل ما فيه هو لنا، ولكن ماذا عنك أنت...!!؟ ستأخذ معك من هنا قلب آخر تسكنه في مدينة أعماقك... مدينة أتخيلها فيها دروب كثيرة وطرقات بلا عناوين حدائقها كبيرة... في شرقها جبال، وفي غربها كثبان رملية، وبقية اتجاهاتها ينابيع عذبة ومزارع نخل وورد وعنب وبرتقال!!!! مدينة أعماقك يا محمد التي ستصحب فيها قلب من هنا هو قلب منيرة الذي سرقت مدينة كبيرة ولكن... مدينة بلا خيمة وبيت!!!! قلت «يا زائرة الليل... هي الأيام لا أنا، الفراق لا يستطيع أن يفرغ الذاكرة من سعادة عاشها الإنسان... أنت حبيبتي وصديقتي وأليفة خاطري وأختي... هذا هو كنز الحلي الذي أهديك إياه... ولن يكون بمقدورك أن تتزيني بشيء منه أمام الآخرين!!!». قالت منيرة «صدقت، يا لعمق مأساتي فيك، ليت أمي أنجبتك... للبست وتزينت كل الحلي الذي بكنزك لي تركت... ولصرخت لا... همست لا... لغنيت نعم بأعذب الألحان، وقلت هذا من محمد أخي...!!! وبكت منيرة بكاء حزينًا، كأنه على مقام الصبا!! قمت من سريري، وأخرجت من حقيبتي منديلاً مطرزًا، نسجته لي شقيقتي... واقتربت منها، ومسحت بالمنديل دموعها الغالية التي عطرت المنديل حتى أنني خفت إن أبقيته معي بعد أن تبلل من عطر عينيها من شمم لجرح حنيني إليها، ووضعت المنديل في حقيبة يدها التي ظلت طيلة الأيام الماضية لا تريد أن يكون بين أشيائها ما يخصني!!! قامت منيرة وحضرت القهوة لنا... قهوة آخر ليل شجي، ثم قالت: تفضل يا الغالي، قهوة ساخنة لعلها تشعرنا بالدفء... وهو ما عجزت عنه دموع شربناها في ليلتنا هذه!!! قلت «حبيبتي... بودي أن نتآمر على قلوبنا، ونتفق على حقيقة واحدة فقط!!!». قالت «يا قرة عيني، أنت ما أسعدني بك... أنا محظوظة أني أمارس أعدل احتلال لقلبك... هل تعلم أنني أخاف عليك من كل شيء حتى من مرارة القهوة التي بين يديك»!!! قلت لها: منيرة... منيرة... منيرة!!! قالت وهي تضحك.. أسمعك يا محمد!! قلت: اعذريني... أردت أن أتمتع بترديد اسمك... عمومًا هذه الحقيقة التي يجب نتفق عليها في ليلتنا الأخيرة، فربما تكون الليالي القادمة بكماء بلا صوت!!! قالت: صدقت...!!! ثم قامت منيرة، وأخرجت المنديل المطرز من حقيبتها، ولفته على يدها اليمنى حتى اختفى الحناء في راحة يدها والأسورة التي عند مفصل كفها... واقتربت مني وقالت بصوت مبحوح: «محمد، ضع يديك بيدي»... فوضعتها. قالت: «أعدك يا محمد بأنك ستظل حبيبي وصديقي وأخي... لا أنساك ولا أتناساك ما حييت»! ودنت برأسها إلى كتفي وهي باكية، ولا تزال يدي بيدها!!! قلت: «أعدك يا منيرة بأنك ستظلين حبيبتي وصديقتي وأختي... لا أنساك ولا أتناساك ما حييت»! في هذه اللحظة الطاهرة والنقية يتهادى بروحانية أذان صلاة الفجر من مسجد المستشفى. قالت منيرة، حبيبي نصلي الفجر... ثم نفطر معًا؛ إذ إنني أحضرت الفطور من البيت، وقد رتبت لك كل أشيائك لتأخذها معك، وكذلك أوراقك وأدويتك جاهزة... حبيبي، تذكرت... أمي أعطتني هدية لك مغلفة، لا أعلم ما بداخلها... قلت رائعة هذه الأم... سنفتح يا منيرة هدية (أمنا الحنون) معًا.. كانت علبة مغلفة بورق أخضر ومزين بشريط من الحرير الأبيض. فتحنا أنا ومنيرة الهدية معًا، وإذا هي أعظم ما بهذا الكون «القرآن الكريم»، وقد كتبت أم منيرة: «هذه هدية أم لابنها يا محمد... انتبه لنفسك ولصحتك الغالية علينا... وكتب الله لك أجر تلاوة كل حرف من هذا الكتاب». وأعجبتني طريقة مبتكرة في توقيعها على الإهداء، كان توقيعها بصمة يدها. ضحكنا أنا ومنيرة على البصمة.... وقالت منيرة «محمد، ما رأيك أن نضع أصبعي وأصبعك على إحدى صفحات القرآن ونقرؤها معًا؟»... ففتحنا صفحة القرآن، ووضعنا أصابعنا، فتلونا هذه الآية {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. عبدالعزيز حمد الجطيلي - عنيزة e-mail: [email protected] twitter: @aljetaily