قلتُ في المقال السابق ("الرياض" الخميس الماضي) إِن بين الشاعر "كاتبًا شعره" والشاعر "ناقدًا سواه"، فُسحةً جوهريَّة.. ما هي؟ الشاعر الأَصيل (شعرًا كتبَ وَ/ أَو نثرًا) قلَّما يأْتي دُرْبَةً إِلَّا ويُتقنها. كأَنَّ له، إِلى نعمته شاعرًا، موهبةَ إِتقان الدُّرَب، بعين الناقد الدَؤُوب ومِجهر البَحَّاثة الطُّلَعَة، فإِذا كلُّ نصٍّ يَمُرّ في غرباله يَخرج عاريًا إِلَّا من القمح، لرنّة أَفكاره رنينُ الأَصالة في سوق الجواهر، ولإِيقاع كلماته في المتلقّي (مستمعًا أَو قارئًا) توقيعُ الحق في قولة الحقيقة. تُصبحُ كلمتُهُ هي الحدَث، فتنتصر نصوصُه على عوابر المناسبات، وتبقى مراجعَ أَدبيةً ومذاهبَ نظريةً ومراجعَ تطبيقية حصدَ إِليها نظريةً عميقةً في الجمال واتّباع الأُصول، فإذا "قراءته" الشِعرَ أَو النثر، من مِجهره النقديّ، إِضاءةٌ أَسطع على ما يَصدُر فيهما. من هنا أَنَّ "قارئَ" القصيدةِ الجيّدَ لا يقلُّ أَهميةً عن "كاتب" القصيدة، و"قارئَ" النصِّ النثريِّ المتبصِّرَ لا يقلُّ إِبداعًا عن "كاتب" النصّ. المُتلقّي شريكُ المُبدع: ما قيمةُ بلبلٍ يُعندلُ في قعر وادٍ وليس مَن يسمع عندلاتِه؟ وما قيمةُ أَرجٍ يضوعُ من وردةٍ متكئةٍ على سياجٍ، وليس مَن يَمُر حدَّ السياج فيشمُّ العبير؟ العلاقةُ بين المبدع والمتلقّي هي في تَوازٍ لا يقبَل الخلَل. ويسمو التوازي إِذا كان القارئُ الناقد شاعرًا، فلا يكون نصُّه مرآةَ النصِّ المنقودِ بل كتابةً له أُخرى تكشف منه الكوامن واللَقِيّات. ورُبّ ناقِدٍ يثقِّفُ شعبًا بنصٍّ أَدبيٍّ جماليّ لأَنه يتلقّى نصَّ سواه ليُعيدَه، بنقده إِياه، شكلًا آخرَ للإِبداع: يقرأُ نثرًا فيقشِّرُ النثرَ نصًا وسكبًا وسبكًا وتراكيب، ويقرأُ الشعر فيُشَرِّحُ الشِّعر بِمبضعه الرهيف لتخرُجَ القصيدةُ من بينِ يديه حاملةً هُويّةً تَجعلُها على مدخل الشعر، أَو في قلب الشعر، أو تَجعلُها.. شعرًا أَكثر. دأْبُ مِجهره، في النثر والشعر: التمسُّكُ بقيَم الأُصول ومقاييس الجمال، لا تَحَجُّرًا فيها بل حرصًا عليها عصمةً من سقوط. لا يشيحُ عن الجديد حين الجديدُ لؤْلؤُ فنٍّ عالٍ، بل يُشيح إِذا كان زبدَ موجةٍ تَحمل موضة ("الحداثة قيمةٌ لا موجة"، يرى رولان بارت). الشاعر يقرأُ قصيدةَ الشعر بنتَ الأُصول في الشعر، كما يقرأُ نضيدةَ النثر بنتَ الأُصول في النثر. فرُبَّ نضيدة نثريةٍ عاليةٍ تساوي عشراتِ القصائد المنظومةِ عروضيًا ولا شعرَ فيها، وربَّ قصيدةٍ شعرية جيّدةٍ تساوي عشراتِ نصوصٍ نثريةٍ غيرِ مشغولةِ فنيًّا لا تُساوي، مَجموعةً، نضيدةَ نثرٍ عاليةً واحدة. هكذا "الشاعر "القارئ" (= الناقد) يرى الشعرَ شعرًا والنثرَ نثرًا، فلا يَخلط بينهما. يعرف أَنّ النثرَ فنٌّ عظيمٌ في ذاته، والشعرَ فنٌّ عظيمٌ في ذاته. والنثرُ العالي ليس يَحتاجُ، لإِعلاء مستواه، إِلى استعارة مفرداتٍ من قاموس الشعر ("شعر منثور"، "نثر شعري"، "شعر حُرّ"، "شعر حديث"،...). النثر الفني الجمالي أَرفع من النثر العادي، والشعرُ أَرقى من النظم المحسوبِ شعرًا فيما يتلطّى وراءَ النظم صاحبُه الذي قد يكون أُستاذَ عروضٍ ناجحًا ولا يُبْدِعُ طَوال حياته بيتَ شعرٍ واحدًا. هذا عن الشاعر "قارئًا" (= ناقدًا) نثرًا وشعرًا. فماذا عن الناثر ناقدًا؟ هذا ما أُعالجه في المقال التالي ("الرياض" الخميس المقبل).