1) في لغة الشعر ما الشعر؟ بل ما الذي يستاهل أَن يسمّى "شعرًا"؟ هل يُمكن "تَحديد" الشعر كما يتحدَّد أَيُّ فَنٍّ آخر؟ ما الذي "يَجب" في الشعر، وما الذي "لا يَجب"؟ إِذا كان "وجوبُ" الوزن في الشعر ضرورةً ليكون "شِعرًا" (تَمييزًا له عن النثر)، فهل كلُّ كلام "موزون" هو في جوهر الشعر؟ وإِذا كانت القافية لازمةً كي يفترق "السجَع" في النثر عن "التقفية" في الشعر، فهل كلُّ قافيةٍ تَصُبُّ في جوهر الشعر؟ وهل تكفي القافية وحدها، أَو الوزن وحده، لِتمييز النثر عن الشعر؟ وهل يَرفع من قيمة النثر أَن يكون فيه شيْءٌ من الشعر؟ وإِن كان كذلك، فهل هو كافٍ ليقال عنه "النثر الشعري" أَو "الشعر المنثور"؟ وهل يَضير الشعر أَن يكون فيه شيْءٌ من النثر؟ هذه الأَسئلة وسواها طَرحَتْها الناقدة الإِنكليزية فْريدا هيوز (مولودة في لندن 1960) وهي تودِّع قرَّاء زاويتها الشعرية الأُسبوعية في جريدة "التايمز" اللندنية بعد سنتين (2006-2008) من نشْرها قصائدَهم والتعليق عليها، مؤكدةً أَن "القافية والوزن والإِيقاع ثالوثٌ إِلزاميٌّ للشعر". وبين ما ذكَرتْهُ أَنّ "الكلمات في الشعر هي غيرُها في النثر"، بِمعنى "أَن تكون في الشِعر منتقاةً في عنايةٍ قد لا يتطلَّبها استخدامُها في النثر". وذهبَت أَبعد فحدَّدت: "تُراعى في الشعر الهيكليةُ العامة، المسؤُولية في كتابة القصيدة، وضرورة السعي دائمًا إِلى إِيجاد جديدٍ للشِعر غيرِ مأْلوفٍ في النثر وفي الشعر المتدَاوَل". وأَكَّدت "قدْرة القصيدة على رفْع قارئها إِلى حالة راقية سامية". وعمَّا "لا يجب" في الشعر حدَّدَت: "أَلَّا تكون القصيدة نُخبوية التعابير (فتقتصر على قرّاء قليلين ولا يجد الآخرون تواصلًا معها فيشيحون عنها)، وأَلَّا تكون في القصيدة سهولة مَجّانية تَجعلها كلامًا عاديًّا مكرَّرًا لا يَجد المهتمون أَيَّ دافع لصرف دقائق على قراءتِها". 2) في لغة النثر في مسرحية "الثريّ النبيل" (1670) للمسرحي الفرنسي موليير (1622-1673) حوار طريف بين الثريّ ومدرِّس الفلسفة. قال الثري" للمدرّس: "سأُسِرُّ لكَ بأَمر حميم: أَنا عاشقٌ سيدةً ذاتَ مكانةٍ عالية. أُريدُك تساعدُني في كتابة عبارةٍ إِليها على هذه البطاقة التي سأُرسلُها لها". سأَل المدرّس: "أَتريدُها شعرًا"؟ أَجاب الثريّ بحزم: "لا. لا أُريد شعرًا". استنتج المدرّس: "إذَنْ تريدها نثْرًا". انتفض الثريّ: "كلَّا. لا نثرًا أُريدُها ولا شِعرًا". استغرب المدرّس: "مستحيل. يجب أَن تكون نثرًا أَو شعرًا". فاستغرب الثريّ بدوره: "لِماذا؟"، أَجاب المدرّس: "لأَن في اللغة شكلَي تعبيرٍ فقط: الشعر أَو النثر". استفسر الثري: "ليس إِلَّا الشعر والنثر؟"، أَجاب المدرّس: "صحيح. كلُّ ما ليس نثرًا هو شعر، وكلُّ ما ليس شعرًا هو نثر". أَكمل الثريّ استفساره: "... والذي نتخاطب به الآن؟"، أَجاب المدرّس: "هذا نثر. نحن الآن نتحدَّث بالنثر". واصل الثري استغرابه: "يعني حين أَطلب من خادمتي أَن تأْتي لي بوجبة العشاء أَكون أَتكلَّم النثر"، ختم المدرّس: "نعم. تكون تخاطبها بالنثر". وختم الثريّ مستنتِجًا: "أُفّ!!! يعني أَنني منذ أَربعين سنةً أَتكلَّم النثر ولا أَدري! شكرًا على ما علَّمْتَني أَيها المدرّس". هكذا يعتبر الكثيرون، خطَأً، أَن النثر بدهيٌّ من تحصيل الحاصل: حين لا نقول شعرًا (بأُصوله ونُظُمه) نكون نقول نثرًا. وهذا خطَلٌ: فللنثر لُغَتُه بل لُغاتُه، وللشعر لُغَتُهُ بل لُغاتُه. لكل نصٍّ قاموسُه ومصطلحاتُه، والتشدُّدُ في الانتقاء لا يبلغه إِلَّا المبدعون.