يعمَد المعنيون إلى تسميات "الشعر المنثور" و"قصيدة النثر" و"النثر الشعري"، كما ليرفعوا الكتابة النثرية إلى مستوى الشعر، وفي لاوعيهم الجَماعي كأنّ الشعر أَرفعُ مستوى من النثر. هذه إهانةٌ النثرَ، وتسهيلٌ كتابةً رخوةً "تدّعي" الشعر كي تنصِّع نصًّا يُقْنع المتلقّين لو نسبوه إلى إقليم الشعر دون النثر، كأنّ النثر درجة ثانية والشعر درجة أُولى. هذه الموجة من دُرْجَة الشعر "الحديث" بدأَتْ منذ أَخذ شعراء يخرجون عن عمودية الشعر (صدرًا وعَجُزًا وقافيةً ورويًّا)، ويبنون قصيدتهم مدوَّرَةً على وحدة التفعيلة، وأتوا بروائع فيها مقابلَ غَثٍّ كثير من نمط "معاصر" سقَط في السرد النثري. هذا الخروج على النُظُم تَواصَل انفلاتًا حتى بلغ "الشعرَ الحر" ف"الشعرَ المنثور" المتفلِّتَ من إيقاع كلّ قاعدة عروضية، متحجِّجًا ب"الإيقاع الداخلي"، وهْمًا لا تعرفه سيداتُ الإيقاع: السمفونياتُ الخالدة التي "تفرض" ميلودياها ولا تنتظر "البحث" عنه بين النوطات. قلتُ في مطلع هذا النص إنّ في تلك التسميات المُدَّعَاة إِهانةً قيمةَ النثر، فيما هو فنٌّ عظيمٌ في ذاته لا يجوز ربطُه بفن الشعر لإعلاء قيمته. فرُبّ ناثر متمكّن يبدع فيه أبلغ من أَيّ شاعر، حتى إذا "ارتَكب" الشعر جاء شعره نظْمًا، ورُبّ شاعر متمكّن مبدع إذا كتب النثر جاء نثرُهُ مسطّحًا عاديًّا دون شعره. من هنا أن النثر فضيحة الشاعر، كما الشعر فضيحة نظَّامين "يَتلطَّون" خلف تقطيع الوزن وتلميع القوافي وتطريب الإلقاء، فيما أبياتهم مرصوفة التراكم عموديًا وليس فيها بيت واحد ذو إبداع. في السائد أن الشعر معنى ومبنى ووزن. لا: المعنى موجود أنّى كان، والمبنى متوافر لأَيّ كان، والوزن مطروح في كل زمان. الأصل ليس "ماذا نكتب" بل "كيف نكتب ماذا". وهذا ما يميّز قصيدة باردة عن أخرى إبداعيّة. المعيار؟ تركيب القصيدة. الأهم؟ أن يكون في كل بيت "لمعة" تركيب شعرية. وهذا نادر حتى بين كبار الشعراء، لأن معظمهم يراكم أبياته متتالية حتى يبْلغ "بيت القصيد"، فيما الشاعرُ الشاعر هو من يجهد إلى جعل كلٍّ من أبياته "بيت القصيد". وما أعنيه عن هذا "النحت" الجمالي الصعب في "فنّ" الشعر، أعني مثيله تمامًا في الفن الصعبِ الآخر الذي هو النثر. إذا مقطوعةُ الأوّل هي القصيدة، فمقطوعة الأخير هي "النَثيرة". وإذا الشعر هو الكلام المغاير (تركيبًا) عن الكلام العادي (رصفًا سرديًّا)، فالنثر كذلك -وتمامًا وتساويًا- هو الآخَر نسْج الكلام صقلًا وتنصيعًا بما لا يقلّ "نحتًا" عن نسْج الشعر. وهكذا يتعادل الإبداع بين القصيدة والنَثيرة.