بعضُ ما يشوب شعرَنا المعاصر: مِحنةُ النقد. والعلاقةُ عمومًا جدليةٌ وُثْقى بين الشعر والنقد (كما بين النقد وأَيِّ فَن). كلُّ حركةٍ شعرية رافقَتْها حركةٌ نقدية. والشعر ينمو بقارئٍ رهيف وناقد ثقيف يُهَيِّئُ القارئ ليعرف تكاملَ القصيدة وتَمَوْقُعَها، وتَواصُلَها مع تراثها أَو انسلاخها عنه. مؤْسفٌ أَنّ معظم النقد عندنا تنظيْرٌ فوقيٌّ، أَو موقفٌ شخصيٌّ (سَلْبِيًّا كان أَو إِيجابيًّا أَو مُحايدًا)، أَو هو سردٌ انطباعي مسطَّح. والناقد إِجْمالًا (كي لا أُعَمِّمَ فأَظلُمَ بعض الجِدِّيِّين) إِمَّا صديقٌ مُسْبَق أَو خصْم مُسبَق، مَدَّاحٌ سَلَفًا أَو شتَّامٌ سَلَفًا. وهو في معظم الحالتَين غارقٌ في إِيديولوجيَّات أَو فئوية، مصنِّفٌ ذاته سلفًا في هذا المعسكر أَو ذاك، يتهجَّم على مَن لا "يَتَأَدْلَجُ" في صفوفه. حيث لا موضوعيةَ، لا نقد. والناقد الرصين مَن يقرأُ النص بمجهر ثقافته مقارنًا مَوْضَعَة النص (نثريِّه أَو شعريِّه) في سياق عصره ومعاصريه، كي يتبيَّن له ما في هذا النص من جديد أَو تجديد، حتى يمكنه تصويب موقعه وقيمته اللامعة أَو برودته القابعة في التقليد أَو تكرار ما سبَقَه فلا يكون له مكان في مسيرة التجديد الأَدبي. فالتقليد يبقى ثانويًّا بل هامشيًّا في ذاكرة الأَدب ولن يكون له وقْع في عصره ولا في العصور التالية. وفي تاريخ أَدبنا العربي أَكداس من القصائد لم ترد فيه لأَنها من التقليد البارد ولا تجديد فيها يستحقُّ الذكْر. فالشعر الذي ليس يعدو كونه بوقًا أَو صدًى، لا يَختلف عن أَيِّ كلامٍ حَماسيٍّ أَو منبَرِيٍّ أَو خطابِيٍّ نقرأُه كلَّ يوم في الصحف. الآنِيُّ نقيضُ الخالد. والشعر المُقَلِّد آنِيٌّ لا يَخلد. وإِذا القصيدةُ غَرِقَت في التكرار، غرِقَ شاعرُها في رمال الطارئِ المتحركة عوضَ أَن يتخطَّى المناسبة أَو الحدث إِلى أُحدوثةٍ رؤْيوية. قصيدة المناسبة تتنافى ونُخبويّتها. للمناسبة النثرُ وافتتاحياتُ الصحف. الشعر الخالِد على الزمان ليسَ زيتًا لبندقيةِ المُقاتل، ولا أَرُزًّا لطلعة العروس، ولا زهرًا لإِكليل الفقيد، ولا شرائطَ ملوَّنةً لزينة العيد. الشعر حالةٌ تعكسُ حدَثًا وليس العكس. المسافةُ ضروريةٌ بين الشاعر والحدَث (أَو الموضوع). وشاعرٌ لا يراعي هذه المسافة، يقفز إِلى نار الحدَث فيحترق فيها، ويُمسي شِعره تقريريًّا سرديًّا، وليست هذه خصيصةَ الشِعر العظيَم. صحيح أَن في شعرنا العربي قصائد مناسبات لكن فيها من القيمة الشعرية ما يعصُمها عن الزوال مع انقضاء المناسبة، لأَنها في قلب الأُصول الشعرية العالية. فلنكنْ مع القواعد، مع الأُصول، مع الثوابت، مع القِيَم، ولنجدِّدْ من داخل طواعية الأُصول فتزداد هي نضارةً وتَغْنَى بنا الثوابت. الخارجون على الأُصول والثوابت والحقيقة فَلْيَشْرُدوا ما وسِعَت لَهُمُ المنابِر والصفحات. سينتهون مغلَّلين بالفوضى والضياع. وحده التاريخُ يصفِّي أَبناء الأَصالة لأَنه وحده مَصهر الحقيقة. والحقيقةُ هي في الأُصول وهي التي تُحرّر من جَميع الأَغلال. الغَيْمُ القاتِمُ يَحجُبُ الشمس ولا يُلْغيها، لأَنه عابِر. ومصابيحُ الكهرباء تنير بعضَ الليل ولا تَجعله نَهارًا، لأَنّها مُوَقَّتة. ولا بدَّ للفجر من أَن يطلعَ كلَّ يوم، وأَن تُشْرقَ الشمسُ التي تنطفِئُ جَميع الأَنوار ووحدَهُ نورُها لا ينطفئ ولا يشيخ.