كتبْتُ في المقال السابق («الرياض» الخميس الماضي) أَن المرأَة هي اللحظةُ التي تُطلق شرارة الشعر، يتلقَّاها الشاعر فيَصوغُ منها شُعلةَ القصيدة. يبقى: كيف «يصُوغ» الشاعر؟ أَمُنفعلًا بتلك اللحظة؟ أَم مفتعلًا صياغَتَها؟ أَمُتلقِّيًا إِيحاءَها أَفكارًا وصُوَرًا وتعابير يُسجِّلها كما هي؟ أَم متأَنيًّا في صياغتها كما يجدُر بالنحت الصقيل أَن يكون؟ ذات يوم صُدمتُ مرتين إِذ كنتُ لدى كبيرٍ في الشعراء (لا أَذكر اسمه هنا احترامًا لغيابه قبل سنوات) وسأَلتُه عن شعره الغزلي والمرأَة انفعل بها في قصيدته، فرماني بجوابٍ حاد: «ليس في قصائدي امرأَة أَو نساء. أَنا أَفتعل القصيدة الغَزِلَة كي أُضمِّنها أَفكارًا أُريد إِيصالها إِلى القارئ فَأُلْبِسها صيغة غزَل جاذبة، والغزَل من الفنون الشعرية الرائجة». وردًّا على سؤَالي الآخَر واصل بالبرودة ذاتها: «أَنا أَستقبل النساء كما الطبيب يستقبل عائداته». صدمني الجوابان لأَن فيهما «افتعالَ» الشعر حجةً ذاتية أَو غايةً حيادية للكتابة، فلا انفعال إِذًا بكلمة من حبيبة، أَو لحظة حب رومنسية منها تُطلق شرارة الشعر. أَعرف من الشعراء فريقَين: الأَول يرى أَن القصيدة «تأْتيه» لابسةً ثوبها الكامل فيدوِّنها في كتابتها الأُولى ويُصْدرها كما هي، والآخَر يدَّعي أَنَّ بإِمكانه في أَيِّ وقتٍ أَن يجلس إِلى طاولته أَو لدى أَيِّ مكان أَو ظرف يكون فيه فيُمسك قلمه و»يكتب» قصيدة. أَراني، أَمام هذا الأَعلاه، مغايرًا في قناعاتي الشعرية: القصيدة حين «تأْتي» وأُدوِّنها، كاملةً أَو على دفقات، تكون تلك كتابتَها الأُولى، ولادتَها الأُولى، صياغتَها الأُولى، وأَروح منذُئذٍ أَعمل عليها تحسينًا وتجويدًا وتراكيبَ وصِيَغًا وجمالياتٍ تجعلها جديرة بدخول حَرَم الشعر. الشعر موهبة؟ صحيح. لكنه تَوَازيًا صناعة حِرَفية مهنية تتطلَّب براعةً ومهارةً وحذاقةً في تناوُل الفكرة وإِلباسِها التعبيرَ وتمتينِها بالتركيب الجميل. والقصيدة، حين تكون بنْتَ «افتعالٍ» يشكِّلها الناظم كما نجَّارٌ يشكِّل طاولة أَو صائغ يشكل خاتمًا، تخرج تمثالًا من حجر بارد لا ملامح نبض فيه، تليه تماثيل حجرية أُخرى كلَّما الناظم، في أَيِّ وقتٍ يشاء، جلس إِلى طاولته و»افتعل» قصيدة. جميع هذه الحالات أَعلاه مررتُ بها، حتى كانت «داناي» في الستين من عمري وعرفتُ معها الحب وشِعر الحب لا نظْم الغزل. ومنذ هي: استقرَّت قناعتي الشعرية لا بين «الانفعال والافتعال» بل «الانفعال والاشتغال»، حتى إِذا جاءتني منها شرارةُ الشعر انفعلْتُ بها ورحتُ أَصوغ شُعلتها «مشتغلًا» إِياها خيطَ ضوء بَعد خيطِ ضوء، حتى تكتملَ الشعلةُ قصيدةً تستحقُّ أَن أَرفعها إِليها باقةَ حب تليق بالدخول إِلى الحرَمَين معًا: الشعر والحب.