نقف أَمام لوحة. نقرؤها. نحاورها. نسمع خطوطَها، أَلوانَها، تفاصيلَ حنواتها وظلالها وفِلْذاتِ نورٍ هائمةً تتنهَّد في ثناياها. ثم نمضي. تبقى اللوحة في المكان، لكننا نحملها بصريًّا معنا سؤَالًا جوابُه فينا، وربما أَجوبتُه. اللوحة سؤَال. قراءَتُنا إِياها جوابٌ أَو أَكثر. حين هي جوابٌ، نتركها في المكان ونمضي لا نحمل منها أَيَّ ذاكرة. ما ينادينا في اللوحة: التركيب. كيف مزَج الرسام أَلوانه، كيف سنَّ خطًّا مستقلًّا ذا هدفٍ يعانق سائر الخطوط، ثم غرَّدَ إِليه لونًا مستقلًّا ذا معنى يخاصر سائر الأَلوان. إِن لم تكُن للخطوط أَهدافٌ وللأَلوان معانٍ، فهي لوحة سطحية لا ذاكرة منها. التركيب: هذا هو الأَساس. إِمَّا هو تركيب يخلق فينا حالةً تجعل اللوحة مميَّزة، مغايرة، ساطعة، أَو يُبقيها باهتة، ساكنة، جوابُها فيها فلا حاجة بنا إِلى استذكارها. اللوحةُ التي هي السؤَال وفيها الجواب، تذبل وردةً تاعسةً قبل تَضَوُّع عطرها. هكذا القصيدة: سؤَال هي، لا جواب. تخلق فينا "الحالة" فَتَتَغايَر وتَلْفتُنا فنحفظها، أَو تمرُّ أَمامنا عابرةً كزبدٍ عابرٍ لا رذاذَ فيه. ما الذي يخلق هذه "الحالة"؟ التركيب. كما الخطوطُ والأَلوانُ وتركيبُ اللوحة منها، كذا الكلماتُ واختيارُها وتركيبُ القصيدة منها، تَخلق "الحالة" في القصيدة. وكما اللوحةُ لا تشرح مؤَدّاها ولا تعرض علينا شرحها بل نحن نستعرضه، كذا القصيدةُ لا تعرض علينا شرحها بل نحن نستعرضه من كلماتها واختيارها وتركيبها مفردةً أَو متزاوجةً في السياق. إِذًا: القصيدةُ حالةٌ تنبجس من تركيب الكلمات. الحالة هي الأَهم، لأَن الكلماتِ خارجَ الحالة خرساءُ. ومن الحالة يولد الفعل الشعري، ويكون فاعلًا بقدْرِمَا ينفعل به المتلقي. القصيدةُ التي ليس فيها فعلٌ يولِّدُ الانفعال، تبقى باردةً في بيتها ويدفنُها في النسيان غبارُ السنوات. وللفعل في القصيدة صوت. القصيدةُ التي لا صوتَ فيها، لا توصل صداه إِلى قارئها. وصوتٌ بلا صدى يظلُّ أَبكمَ ولو صاح. والفعل الشعري لا يتوقَّف عند نهاية القصيدة. السكونُ بعد نهاية القصيدة يكون له أَحيانًا صوتٌ يُكمل فينا بعد سكوت الكلمات. وهذا الصوت هو الذي يرافقُنا فنحفظ القصيدة من صوت كلماتها ومن صوت السكون بعد الكلمة الأَخيرة. هنا نحن إِذًا حيال القصيدة: كلماتٌ يُشكِّلها تركيب، تركيبٌ يَخلق الحالة، حالةٌ تخلق الفعل، فعلٌ يخلق الصوت، صوتٌ يبدأُ مع قراءة الكلمات ويُكمل في ذاكرة السكون بعد سُكوت الكلمات. هكذا الشعر: عالَمٌ سحريٌّ له جميعُ هذه الأَعلاه من النُظُم والأُصول والأَركان. بَعد كلِّ هذا، مَن يجرؤُ على ادِّعاء الشِعر في كل قصيدة؟