بعد تمييزي غيرَ مرة في هذه الزاوية بين شعر الغزَل (ومعظمُه افتراضيٌّ لامرأَة في خيال الشاعر) وشعر الحب (وهو مُعاشٌ في كل تفصيل منه)، أَسأَل عن المصدر في شعر الحب الحقيقي المُعاش: هل هي المرأَة الحبيبة توحي للشاعر بقصيدته؟ أَم هو الشاعر يَنسُج القصيدة ويرفعها إِلى الحبيبة على أَنها الموحية؟ أَين هي الشرارة؟ ومن أَين؟ إِن كانت المرأَة هي الشرارة، فعلى الشاعر أَن يبني منها القصيدة بهندستها الشعرية وتناغُمها السمفوني المنسجم فتصدر لؤْلؤَة فنية متكاملة. وإِن كان الشاعر هو المصدر، فلا تعود المرأَة إِلا المُكْملة لا الأَساس. وهذا ما أَرفضه بحزم. السؤَال الأَساس: هل الحب يأْتي من المرأَة؟ أَم هو موجود في الشاعر وتطلق شرارتَه المرأَة؟ شخصيًّا، بعد تجربتي مع داناي - ومعها عرفتُ الحب في الستين وكنتُ قبلها في الغَزَل - أَجزُم أَن الحب يأْتي دائمًا من المرأَة فتولِّد في الشاعر الشرارةَ التي تُشعِل شعر الحب. وإِلَّا لِمَ لم يولَد فيه قبلها شعرُ الحب وبقي قبلها في الغزل الافتراضي؟ إِذًا: الشرارةُ هي المرأَة، والاشتعال الروحي هو في المرأَة، وعلى الشاعر أَن يلتقطَ منها اللحظة المباركة فيتلقَّفَها ويُعيدَها إِلى المرأَة قصيدةً نابضة بالحب الذي نَفَحَتْه به. هل هذا يعني أَن دورَ المرأَة حياديٌّ ولا فضل لها إِلَّا أَن تفيض باللحظة؟ لا. أَبدًا. دور المرأَة هو الأَساسُ: عطاءً وتَلقِّيًا. هي تعطي وهي تظلُّ تُعطي، وهو يتلقَّى ويظلُّ يُعيد إِليها الفضل. قبلها لم تُزَلْزِلْهُ امرأَة. لم تؤَرِّقه امرأَة. لم يختضّ لحضور امرأَة ولا اهتمَّ لغيابها. لم يتهدَّم إِذا غضبَتْ هذه أَو حزنَتْ تلك أَو نَفَرت. قبلها كان لا يهتم لامرأَة ابتعدَت أَو غابت. قبلها كان في الافتراض ويلجأُ إِلى افتراض آخر يُقْنع به لحظتَه الشعرية كي يستعير لشعره حادثةً، حضورًا، حالةً يصبغها بحضور امرأَة ما، ويصوغ من افتراضاته قصيدتَه ليَظهر أَنه «عاشق». معها، تلك التي تكون هيَ هيَ قدَرَه، يَمَّحي كلُّ افتراض. معها يشعر أَنه مرتبطٌ بلحظتها في كلِّ ما به ينبضُ شعرُه. لذا يروح يرفعها لا إِلى أَعلى، بل إِلى حيث هي وهو أَساسًا في الأَعلى. ليس تقديسًا ما يفعل ولا تكريسًا، بل تكريمٌ هذه النعمةَ التي هلَّت عليه فانهلَّت معها لحظةُ الشعر الحقيقي الصادق، في كلِّ فلذةٍ منه فلذةُ حياة. معها لا يعود «الحب» وهمًا، علاقةً، افتراضًا، مغامرةً، نَزوةً، شهوةً، قصة. معها يُصبح الحبُّ قدَرًا، العمرُ قدَرًا، الشعرُ قدرًا، وما على الشاعر إِلَّا شكران أَنْ معها وُلد الشِعر ومنها يَغتذي.