ما طبيعتُها، هذه القصيدة الأُعجوبية؟ ما السرُّ في تأْثيرٍ عجيبٍ تُثيره في القراءة أَو السَماع؟ يَنسج الشاعر قصيدته في دأْبٍ دقيق رقيق عريق، حتى إِذا أَطلقَها في فضاء الشعر راحت تزغرد أَلوانًا تُبهِج المدى عُطورُها، وتتردَّد ميلودياها في الأَسماع المُنْصتة أَو العيون القارئة، ساكبةً على الواقع عبيرًا تَجعلُه أَرقى. هل القصيدة وليدةُ الحلْم؟ أَم توقُ احتمال؟ هل تَنقُل ما هو كائن؟ أَم ترسم ما سوف يكون؟ إِخالها، من تجربتي الشعرية، خيمياء روحية طاهرة تُحوّل الحلم الجميل إِلى احتمال جميل، والاحتمالَ إِلى واقع أَجمل. إِنها إِذًا قوَّةٌ تغييرية. ليست في الافتراض بل في الحقيقة. تأْتي من الحلُم الأَسمى وترفع الواقع إِلى هذا السُمُوّ، تترجم المحلوم إِلى مُعاش فيُصبح المُعاشُ حالة سائغة. ما معيارها إِذًا؟ الحدْس. وليس للحدْس معيار علمي. إِن هو إِلَّا الشُعور بالاستباق، والاستباقُ الحدْسي خصيصةُ الشعراء، طاقةٌ هيولانية لا يُمكن - ولا يَجوز - تفكيكُ عناصرها بمقاييس ومعايير عقلانية أَو ديالكتيكية. عند صدور كتابي "داناي.. مطرُ الحب"، وإِعلاني فيه أَنني عرفتُ الحب في الستِّين من عمري، وأَنَّ ما كتبتُه قبْل ذاك كان في الغزَل الافتراضي لا في الحب المُعاش، تصدَّى لي سؤَال بديهي: "وماذا إِن لم تكن داناي هي المرأَة المنتَظَرة؟ وكيف تَجزُم أَنها هي التي تهبُكَ الحب وتُنقذُك من التغزُّل الاحتمالي"؟ جوابي كان واضحًا مدَدْتُهُ يومها في صحافة بيروت وفي الإِعلام اللبناني والعربي: هو الحدْس ذو القوَّة التغييرية. وهاني أُعلنُها اليوم كذلك من "الرياض" في الرياض: يوم التقيتُ داناي، أَشرقَت شمسٌ من الحدس على ظلمة سنواتي الستين فوُلِدَ بي شعر الحب وانطوى مني شعر الغزَل. باتت قصيدتي "تكون": تتكوَّن من الحب فلا أَستولدَها اصطناعيّا من غزَل افتراضي أَستعيرُ له امرأَةً كي يكون. هكذا "تكون" القصيدة، كلُّ قصيدة، و"يكون" الشاعر، كلُّ شاعر، في حرَم الشعر. وهنا علامة الإِبداع: الشاعر أَن يُجدِّد فيُمهِّد لا أَن يُردِّد فيقَلِّد، لا أَن يسلك طريقًا ممهَّدة بل أَن يفتتح طريقًا جديدة. القصيدة ليست من الصلاة بل من الحلْم. الصلاةُ ترديد لما هو موجود. الحلْم تمهيدٌ لما سيصبح في الوجود. وعلى الشاعر، في قصيدته، أَن يكون ممهِّدًا لا مردِّدًا، وحين يكون ممهِّدًا يكون مجدِّدًا. متى وكيف تكون القصيدة كذلك؟ حين تأْتي من أَعلى الحلْم الجميل وترفع الواقع إِلى أَعلى الحلم. هذه طبيعتُها، القصيدة الأُعجوبية.. وإِن لم تكُن كذلك، لا مكان لها في الشعر ولا حتى في العادي المسطَّح من النثر.