في رواية «الجريمة والعقاب» يقدم محقق الشرطة بروفيري بتروفيتش نفسه إلى بطل الرواية «رودي» بطريقة من المتعة أشبه برؤية مسطحات الماء الواسعة حين تثير رغبة غريبة وشعوراً بعدم إشباع الحس ما إذا كنت تريد أن تشرب الماء أو تسبح فيه أو ماذا؟ في الواقع يفعل الروائي الروسي فيودور دوستويفيسكي في كل تفاصيل روايته. يقول بتروفيتش: «سأذكر لك يا عزيزي روديون رومانوفيتش، لأعطيك فكرة عن طبيعتي، أنا رجل ما أزال عازباً كما ترى، فأنا إذن لا أعاشر الناس ولا أختلف إلى المجتمع كثيراً، وأنا إذن رجل غامض، مجهول. وأنا عدا ذلك إنسان مكتمل التكوين، متعظم الجسم، متخدر الإحساس.. لجميع الناس موضوع يتحدثون فيه ولكن أفراد الطبقة المتوسطة.. الأفراد الذين هم مثلنا.. يكونون دائماً مرتبكين صموتين... أعني منهم أولئك الذين يفكرون...» تلك الرواية عبقرية، ولعل من لم يقرأها فقد فاته أن يقرأ الكثير، وهناك من صنفها بأنها أفضل رواية في علم النفس على مر التاريخ، ودوستويفيسكي أعظم سيد للرواية النفسية الواقعية ولم يماثله أو يدانه حتى الآن أي معاصر. تكشف «الجريمة والعقاب» عن عالم من التناقض، والاغتراب، وفقدان الهوية، وذلك ما كان ينبئ بالمواضيع المأساوية الرئيسة في القرن العشرين، ومن خلال أدائه السردي الفائق سواء في الرواية أو غيرها انتهاء بروايته الشهيرة أيضاً «الإخوة كارامازوف» قدّم دوستويفيسكي حالة من الجمال الإبداعي التي لا يمكن أن يعبر منها قارئ ولا يغوص في نفسه كما يفعل هذا الروائي، فجميع أعماله تحفر عميقاً في عالم اللاوعي واستكشاف التناقضات بعمق. يضع دوستويفيسكي قارئه أمام ذاته وروحه بصورة لا توجد إلا فيما يكتبه، وذلك ما جعل سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، يعترف بأنه مدين لرؤى دوستويفيسكي النفسية. فكل رواية، وخاصة «الجريمة والعقاب» بمثابة ساحة معركة لروح الإنسان، والمخاطرة فيها هي البقاء على قيد الحياة. أبطال دوستويفيسكي، كما في حالة روديون رومانوفيتش راسكولينكوف أو «رودي»، محاصرين بين العالم القديم للإيمان الأرثوذكسي والعالم الجديد القائم على الفردية الحادة، ولكل منها مزاعمه ومبرراته الملحة لكل اختراقاتهم الأخلاقية. من أهم وأبرز ملامح التجربة الروائية لدوستويفيسكي قدرته على حبك التفاصيل دون رتابة أو ملل، ففي «الجريمة والعقاب»، يبدو دقيقاً للغاية في تحديد أسماء الشوارع، والجسر الذي يرى فيه «رودي» امرأة تحاول الانتحار، إذ إنه عند قياس عدد الأقدام بين غرفته الصغيرة وشقة الرهونات القديمة التي حدثت فيها جريمة قتل المرابية العجوز، تم اكتشاف أن رودي قدم حساباً دقيقاً للمسافة، حيث سار 730 خطوة للوصول إلى الشقة لارتكاب جريمته. التفصيل النفسي الدقيق في الرواية جعل دوستويفيسكي أشبه بطبيب نفسي، وللمفارقة متقدماً بأشواط على فرويد، إذ كانت أوصافه للعواطف الداخلية واقعية وصحيحة من المنظور النفسي، لذلك غالباً ما كان يكتب عن يأس الإنسان المطلق الذي يجعله يتعمق كثيراً في الذات الإنسانية ومتاعبها، فمن خلال المعاناة يمكن للإنسان أن يكفر عن كل ذنوبه ويصبح أكثر انسجاماً مع العناصر الأساسية للإنسانية، لذلك اتجه ببطله «رودي» ليتحمل معاناته، فقد كان يرى أنه حين يفعل ذلك سيتم تطهيره. روديون رومانوفيتش كان شاباً يائساً وحقيراً على نحو ما، خطط لجريمة قتل المرابية العجوز لأنه يراها قملة غير مجدية، سيئة، خبيثة، وامرأة عجوز لا يحبها أحد ولن يبكي عليها أحد، لذلك برر لجريمته بتساؤلات من قبح النفس البشرية التي يشوهها الشر ويرهق الخير الذي فيها: أليس من العدل أن يرتكب رجل عبقري مثل هذه الجريمة، وأن ينتهك القانون الأخلاقي إذا كانت ستفيد البشرية في النهاية؟ كان رودي غارقاً في جحيم الاضطهاد والجنون والرعب، وعبر «الجريمة والعقاب» تتكشف روح الرجل الذي يتملكه الخير والشر على حد سواء، أو رجل لا يستطيع الهروب من ضميره، لينتهي به المطاف إلى ندم قبل أن يدخل في لعبة القط والفأر مع محقق الشرطة بتروفيتش، ويحكم عليه بالسجن ثماني سنوات مع الأشغال الشاقة في سيبيريا، وحين يصيبه المرض، يدرك أخيراً أن السعادة لا يمكن تحقيقها من خلال خطة منطقية للوجود، ولكن يجب كسبها من خلال المعاناة. والمحصلة عمل من أحد أعظم روايات التاريخ يعكس وقائع الخير والشر في النفس في رحلة سردية تجعل كل قارئ يرغب في إعادة قراءة هذا العمل المترف بكل جماليات السرد وحديث النفس.