لم يكن راسكولنيكوف -ذلك الفتى الغر الذي أرهقته المثالية الإنسانية حد ارتكاب الجريمة- يحاول تهدئة ضميره حين قتل العجوز المرابية في رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، بل كان يفلسف الأخلاق، ويحاول أن يقدم تبريرًا واحدًا مقنعًا لما أقدم عليه، وكأنه كان مدفوعًا إليه بقوة الضرورة، بل كأنها المهمة الوحيدة المقنعة والمتناسقة مع وجوده السيكولوجي وجوهره الإنساني في تلك الرواية الشهيرة. وهذه هي المفارقة الصادمة. ولكن ذلك من الممكن أن يحدث إذا كانت ثمة رواية تقول إنه حدث أو سيحدث، وأن الناس ستقبل، وتتعاطف كثيرًا مع راسكولنيكوف. تبدو الرواية كضرورةٍ مُلحة لإنسانٍ أكثر إقناعًا، أنا أعرف هذه الحتمية جيدًا، إذ تُعبر بلا شكٍ عن حالاتٍ من الشك والقلق الوجودي، وهذه بطريقة أو بأخرى هي مثالية الإنسان المفكر، أو فلنقل، هي أعلى مراحل التفكير -إن شئنا أن نكون أكثر وضوحًا وصراحة- ولكنها في الوقت نفسه تمنح الإنسان، علاوة على المرونة والحيوية التي لا يتمتع بها إنسان الواقع (سُلطةً ما). وهنا أريد أن أتجاوز الشخصية المختلقة، إلى شخصية الكاتب نفسه، من حيث سُلطته المطلقة في تقدير أبعاد شخصياته، وإلصاق أقدارها فيها، في تجربة فريدة لاختلاق العالم، أو إبقاء فلسفته أبد الدهر ليصغي إليها الزمن عبر المنولوج الداخلي أو من خلال صوت الراوي العليم. وهذا ما كنت أستطيع أن أستشفه في رواية الجريمة والعقاب، أو رواية (آنا كارنينا) التي كان في موتها -الذي يبدو استعراضيًا إلى حدٍ ما لدى البعض- احتجاجًا حادًا، وصرخة من أجل ذاتها، واحتياجها إن لم يكن اهتياجها من الصراعات العميقة في وجدان الإنسان ما بين الشك والإيمان والعقل والعاطفة والروح والغريزة، فضلًا عن المصادمة بين ما هو تقليدي وما هو دخيل على الثقافة الروسية في الوقت الذي كتبت فيه الرواية. هذا الموت الذي كان نوعًا ما يشبه موت مدام بوفاري بعد صراعات وجدانية طويلة، ممتدة، مرهقة، عملت على تشويه الأنا. وإذن، من حيث إن للرواية هذه الملكة التنويرية لإعادة صياغة الإنسان وفق معنى آخر، أو وفق ما تقتضيه الحبكة السردية، وبحسب تأثيرات العالم المحيط على (الكاتب) الذي ربما يفكر في صياغة العالم نفسه ويتجلى مع هذه الفكرة، فإنها ستمثل ضرورة لتجسيد مثالية فائقة تبرر، تبرهن، تلك الدوافع العميقة، والسمات الغريبة للسلوك، والتي لا يمكن للواقع الحي استيعابها كما يفعل الأدب الواقعي. فالشخصية الروائية المتخيلة، تبدو معبرة عن التمزق الداخلي للإنسان بشكل أكثر إقناعًا وعبقرية، للحد الذي يجعل من (تغول الإنسان) شيئًا عاديًا وأخلاقيًا إذا ما دافع عن هذه الفكرة شخص متمرس في التبرير يستطيع التفريق بين ما هو أخلاقي وما هو عبث أخلاقي. أستطيع أن أتصور الأدب بشكله العام كعقلِ العقل، من أجل ذلك كان هيغل يتصور أن مضمون الشعر الغنائي هو الشاعر نفسه، وكان هايدغر يعتبر الشعر هو أقرب للميتافيزيقيا من العلوم الطبيعية، ومازلت أجزم أن الرواية كفرعٍ أدبي، هو الضرورة الملحة لتبني الوجود الموازي لإنسانٍ غير واقعي، لكنه حيوي، مرن، مقنع، مندفع ومتزن في الآن نفسه في العالم الافتراضي.