التسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع بعينه؛ بل يمتد عبر العصور، وهو ليس أيديولوجيا كالاشتراكية أو القومية، بل هو جزء من منظومة ثقافية عامة، ففي التاريخ الحديث؛ اقترنت فكرة التسامح باسم "فولتير" التي بحث فيها وروّج لها ودافع عنها، وكان يبّشر بضرورة تحمل الإنسان للإنسان الآخر "فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح". و"غاندي" ترك تأثيراته الكبيرة على ما سمّي بحركة (اللّاعنف أو المقاومة السلمية) والتي يمكنها أن تواجه وتتحدى من خلال سلاح المقاومة بالإضراب عن الطعام والاحتجاج والاعتصام والتسامح، الأمر الذي دفع دُعاة المساواة والحقوق المدنية للسود في أميركا إلى استلهام أساليب النضال التي أبدع فيها غاندي وكان "مارتن لوثر كينغ" من أبرز الزعماء السود الذين تأثروا به. وشخصية مثل "نيلسون مانديلا" الذي مكث في السجن 27 عاما وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري "الابارتايد" كان قد أمسك بمفتاح التسامح بعد مفتاح المقاومة السلميّة، فاتحاً صفحة جديدة في نضال شعب جنوب إفريقيا، مقدماً نموذجاً مهماً للعدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسسي، والأهم من كل ذلك نشر فكرة التسامح وعدم اللجوء إلى الثأر أو الانتقام أو العنف. وفي بريطانيا صدرت مجموعة تفصيلية ومؤثرة من الكتابات التي دارت حول التسامح أثناء وعقب الحروب الأهلية الإنجليزية المدمرة؛ فقد اقترح "جون لوك" في كتابه (رسالة في التسامح) نظرية أكثر تفصيلاً وتنظيماً؛ اشتملت على مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، والذي شكل حجر الأساس لمبادئ الديموقراطية الدستورية المستقبلية، وكانت هذه الرسالة من واقع ظروف وأحوال المجتمع الإنجليزي -آن ذاك- والذي شهد صراعا حادا بين البروتستانت والكاثوليك، لكن الرسالة فيها ما يتجاوز ذلك الواقع وتلك الظروف وصولا إلى ما هو إنساني عام، وكان قانون التسامح البريطاني لعام 1689م هو الحصاد السياسي للجهود المبذولة من قبل واضعي النظريات حول فكرة التسامح، فكان هذا القانون ضرورة سياسية أفسحت المجال لتطور تاريخ التسامح الذي ساهم بدوره في تحقيق مزيد من الاستقرار السياسي في الجزر البريطانية، وقد حققت محاولات "توماس جيفرسون" وغيره من المفكرين لإدراج نظريات لوك الخاصة بالتسامح في دستور الولاياتالمتحدة الأميركية نجاحاً مثيراً للجدل. والتسامح اصطلاحاً يعود إلى تطور الفلسفة الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، وبخاصة ما سمي بفلسفة التنوير، وذلك بعد بروز وتطور النزعة الإنسانية المعتمدة على العقل، فقد راج هذا المصطلح في العصر الحديث وخصصت اليونسكو يوم 15 نوفمبر من كل عام يوماً للتسامح على المستوى العالمي منذ العام 1995م ، ويعتبر التسامح والتساهل الفكري من المصطلحات والمفاهيم المثيرة للجدل والتي تُستخدم في السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية لوصف مواقف واتجاهات تتسم بالاحترام المتواضع أو غير المبالغ فيه لممارسات وأفعال أو أفراد نبذتهم الغالبية العظمى من المجتمع، ومن الناحية العملية يعبّر لفظ "التسامح" عن دعم تلك الممارسات والأفعال التي تحظر التمييز العرقي والديني.