يقول مؤسس فلسفة المقاومة السلمية واللاعنف المهاتما غاندي: "لا تستطيع الدول أن تكون متحدة حقا وتسهم أعمالها في تحقيق الخير المشترك للإنسانية إذا لم تعترف وتقبل بقانون الحب في العلاقات الوطنية والدولية، أي في النظام السياسي. لا يمكن لأي دولة أن تصف نفسها بأنها متمدنة أو متحضرة إلا بقدر إتباعها لهذا القانون". ويتساءل الأديب الروسي ليو تولستوي: "هل تريد إزالة الشر بالشر؟ هذا غير ممكن. لإماتة الشر، لا تفعله". كان موهانداس كرامشاند غاندي ينتمي إلى تلك الفئة من المفكرين ودعاة السلام. كان مقتنعا بشدة بأن اللاعنف ليس فقط أحد الكلمات الرئيسية في تاريخ القرن الذي عاش فيه، بل لقرون قادمة. من بين الشخصيات التي كان لها تأثير كبير على فكره، تولستوي يأتي أولا. الحوار بينهما بدأ برسالة غاندي الأولى إلى تولستوي في تاريخ 1 أكتوبر 1909 حيث كتبها بعد قراءة كتاب تولستوي "ملكوت الله في أنفسكم"، واستمر بمراسلته حتى وفاة هذا الأخير في نوفمبر 1910، لمناقشته في مشكلتين رئيسيتين "الحب و اللاعنف". فكتب تولستوي إلى غاندي، قائلا: "في الواقع، اللاعنف ليس سوى تعليم الحب، لا يمكن تشويهه بتفسيرات أخرى مضللة. الحب، يعني: التطلع نحو تآلف النفوس و انسجامها، والعمل الذي ينتج عن هذا الطموح، هو القانون الأعلى للحياة البشرية. كل إنسان يشعر به في أعماق روحه – ندركه بوضوح لدى الأطفال. أيد هذا القانون جميع حكماء الكون، حكماء الهند والصين، و بلدان أوروبا، الإغريق والرومان". أيقظ كتاب تولستوي ضمير غاندي و منحه أساسا متينا لإعادة تفسير بعض قراءاته لاسيما الإنجيل و الكتاب المقدس لدى الهندوس "غيتا". و قد أكد ذلك في عام 1932، عندما كتب: "عزز تولستوي إيماني بالأمور التي كانت مبهمة لدي...لقد اعتمدت على الأسس التي وضعها. و مثل أي طالب نجيب، أضفت على ما أوصاني به". تعد فكرة الحب حجر أساس في الفلسفة التولستوية، ومن ثم أصبحت المحور المركزي لفكر التسامح من وجهة نظر غاندي. هذا التأثير ساعده على تحسين صياغة فكرته عن الله والحقيقة. في مقابلة مع Pierre Cérésole في مدينة لوزان السويسرية في يناير 1932، قال غاندي: " أتفق مع أولئك الذين يعتقدون أن الله هو الحب. في أعماق نفسي، هو الحب والحقيقة". فكرة اللاعنف ترتكز على الحب والحقيقة، والحقيقة هي الغاية التي نسعى إلى بلوغها في هذه الحياة؛ ولا وسيلة لمعرفة الحقيقة، سوى الحب، لأنه كما يقول غاندي: "من يؤمن بالحقيقة واللاعنف مفعم بالأمل. أو بعبارة أخرى: الأمل يفضي إلى الحب والحب يفضي إلى الشجاعة و الإيمان". وبالتالي، يعد البحث عن الحقيقة من أفعال المحبة و التسامح. كتب غاندي: "القاعدة الذهبية تكمن في التسامح المتبادل، لأننا لا نؤمن بنفس الأفكار، ولا نرى الحقيقة إلا مجزأة ومن زوايا مختلفة". وأضاف: " أعتقد أنه لا يوجد إلا دين واحد فقط في العالم، هذا الدين المنفرد مثل شجرة قوية يتفرع عنها أغصان كثيرة... و مثلما تسقى هذه الفروع من نفس الينبوع، فإن جميع الأديان تستمد جوهرها من نفس المصدر". باختصار، يدعونا غاندي إلى احترام عقائد الآخرين والانفتاح الفكري الذي بدونه لا يمكننا البحث عن الحقيقة. إن احترام عقيدة الآخر لا يعني ضعف إيماننا بعقيدتنا أو عدم الاكتراث بها. فعلى الرغم من موقف غاندي المتسامح نحو المسيحية واليهودية والإسلام، لم يمنعه ذلك من الإخلاص لتعاليم الديانة الهندوسية... ورغم ممارسته للاعنف في نضاله المستميت بين الهندوس والمسلمين في الهند، وبعد انتهاء فترة صيامه مع المسلمين لدعوة الهندوس إلى معاملتهم بالحسنى، اغتيل يوم 30 يناير عام 1948 على يد متطرف هندوسي كان يعتقد أن خطاباته تشكل خطرا على مستقبل الهند. قبل وفاته، كان لديه وقت كاف للنظر إلى قاتله وتذكيره بالرب وفكرة التسامح، وتعد هذه لفتة أخيرة من المهاتما تشير إلى مدى تمسكه بحقيقته وأمله بغد أفضل لبلاده. لا يزال اللاعنف الغاندي يحتفظ بكل قوته لتحطيم كل تقاليد الفكر العاجزة عن التغلب على المعارضة بين الأخلاق والسياسة. إن منطق اللاعنف يجعلنا في تحدي مستمر مع الجَلَّاد الذي يسيطر على أنفسنا. كما تعد ممارسة اللاعنف أفضل وسيلة حضارية وبناءة في مهمة الدفاع عن الإنسانية ضد رغبتها في الإهلاك والإبادة، إنها رسالة المهاتما أي "النفس العظيمة" هذا اللقب الذي أطلقه الشاعر رابندراناث طاغور على غاندي. عاش المهاتما في عصرنا الذي نجح في القبض على مأساة مصير الإنسان، المتجذرة في العنف. إن رؤيته الواضحة مقياس للجهد التاريخي الذي أظهره بهدف هزيمة العنف. كتب قائلا: "لدي ضمير بصورة مبالغة، وعيوب تجعلني أغضب من زملائي الذين يشبهونني. ولأنني لا أريد أن أتألم من الأخطاء التي تجعلني مذنب بصفة مستمرة، كما هو الحال بالنسبة للآخرين، فلقد تمكنت من تعقب الشر أينما كان، بدون الإضرار بالشخص المسؤول عن ذلك...عندما أصل إلى عدم ارتكاب أدنى ضرر أو أذى، وأتخلص من الفكر المتجبر أو القاسي، وقتئذ فقط، تتداعى أكثر القلوب قسوة أمام لاعنفي". ينبغي أن يحثنا عمل غاندي، الذي لم يكتمل إنجازه، على استئناف وضعنا التاريخي، و تجربة اللاعنف، للعثور على طريق نحو مستقبل إنساني، لأنه "إذا تم تدمير هذا الأمل"، كما كتب ذات مرة الأديب الفرنسي رومان رولان : "فلن يبقى إلا العنف الأكثر وحشية".