بعد التبصر والنظر في رؤية «كارل بوبر» حول مفهوم التسامح التي شرحتها في المقالة السابقة، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية: أولا: تحدث «بوبر» عن التسامح وشرح رؤيته الناظمة لهذا المفهوم، لكنه لم يلفت النظر إلى طبيعة لحظته التاريخية ومفارقاتها عند تناول هذا المفهوم، فهو يعلم سلفا أن هذا المفهوم جرى التطرق له من قبل، وارتبط في كل مرة بلحظات تاريخية كانت لها مفارقاتها الفكرية والدينية والاجتماعية والتاريخية والسياسية في تاريخ تطور المجتمع الأوروبي الحديث. فقد تناول الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» هذا المفهوم في كتابه (رسالة في التسامح)، وكانت له لحظته التاريخية المفارقة في القرن السابع عشر الميلادي، وتناوله الفيلسوف الفرنسي «فولتير» في كتابه (قول في التسامح)، وكانت له لحظته التاريخية المفارقة في القرن الثامن عشر، وتناوله آخرون في القرن التاسع عشر. وحين تناول «بوبر» هذا المفهوم في مطلع العقدين الأخيرين من القرن العشرين، كان يفترض منه أن يحدد لحظته التاريخية المفارقة عن تلك اللحظات السابقة عليه حتى يتبين جانب الاتصال فيها من جهة، وجانب الانفصال عنها من جهة أخرى. بمعنى ما الذي اختلف وتغير واستدعى من «بوبر» تجديد الحديث عن التسامح في عصره، فهل كانت له لحظة تاريخية مفارقة عن اللحظات التاريخية السابقة، هذا ما لم يتطرق إليه «بوبر»، ولا أدري لماذا لم يتنبه له، هذا عن اللحظة التاريخية من جهة الفعل. وهناك اللحظة التاريخية من جهة المعنى، ونعني بها هل مثل حديث «بوبر» عن التسامح لحظة لها مفارقاتها من ناحية المعنى قوة وتماسكا وتجددا، لعل من الصعب الجزم بهذا الأمر، لكن الأكيد أن «بوبر» قدم مطالعة مهمة حول مفهوم التسامح. ثانيا: في خطاب «بوبر» حضر «فولتير» وغاب «جون لوك»، حضور «فولتير» ليس فيه ما يستدعي التفسير، لكن غياب «لوك» فيه ما يستدعي النظر والتفسير، فقد تجاوز «بوبر» «لوك» وتخطاه ولم يتوقف عنده اسما وخطابا ولحظة، مع أنه سبق «فولتير» في الحديث عن التسامح، وقدم خطابا ذاع صيته ونال شهرة فائقة في عصره وما بعده، ومثل لحظة عُدت من اللحظات التأسيسية لمفهوم التسامح في الفكر الأوروبي الحديث. هذه الوضعية الفكرية والتاريخية جعلت «لوك» حاضرا، وضمنت له وجودا بات من الصعب تغافله وتجاوزه في الكتابات التي تحدثت عن التسامح وأرّخت له في الأدب الأوروبي الحديث وحتى في الأدب الإنساني الحديث، الأمر الذي كان يقتضي ألا يغيب «لوك» كليا عن خطاب «بوبر»، ومتى ما غاب استدعى البيان والإيضاح، وهذا ما لم يتنبه له «بوبر» الذي أهمل «لوك» ولم يقدم تفسيرا لهذا الموقف. ومن جانب آخر، إن غياب «لوك» وحضور «فولتير» يفهم منه أن «بوبر» كان يقدم «فولتير» وخطابه التسامحي ويوليه أهمية على «لوك» وخطابه التسامحي، وإذا حصل عندنا شك في هذا الأمر فإن من الأكيد أن «بوبر» كان يولي أهمية ل «فولتير» وخطابه التسامحي، حتى لو جهلنا حقيقة موقفه من «لوك» وخطابه. علما بأن هذه الملاحظة تصدق على محاضرة «بوبر» التي نشرها في كتابه (بحثا عن عالم أفضل)، وهي تقريبا المحاضرة المحدثة على ما يبدو، لكنه في محاضرة أخرى ولعلها الأقدم جاء على ذكر «لوك» اسما ولم يتوقف عنده مليا. ثالثا: من الملاحظ أن خطاب «بوبر» في التسامح جاء متصلا مع خطاب «فولتير» التسامحي ومتواصلا معه ومتناغما، ويمكن القول إنه مثل امتدادا له من جهة، وتجديدا له وتحديثا وتعميقا من جهة أخرى، ولعل هذا ما كان يبتغيه «بوبر» ويسعى إليه، أو ما حصل وتحقق فعلا بقصد منه أو من دون قصد. حضر «فولتير» في خطاب «بوبر» وتواتر اسمه وشكل إحدى علامات وقسمات هذا الخطاب ال«بوبري»، وأظن أن كل من نظر في هذا الخطاب إما أنه قد تنبه إلى مثل هذه الملاحظة، أو أن من السهولة عليه التنبه لها، وذلك لشدة وضوحها. فقد ظهر «بوبر» متتابعا ل»فولتير» ومتوافقا معه، ولم يظهر اختلافا ولم يوجه له نقدا، وهذا يعني أن «بوبر» أخذ من «فولتير» ما يتفق فيه معه، وأظهره وأعلن عنه، وجعله من قسمات خطابه، ولعله أغفل وصمت عما يختلف فيه معه، خاصة أنه لم يكن بصدد نقده أو إعمال النقد على خطابه، والمحصلة أن خطاب التسامح عند «فولتير» وجد له امتدادا في خطاب التسامح عند «بوبر». رابعا: أسهم «بوبر» في نقل مفهوم التسامح من المجال الديني إلى المجال الفكري، فبعد أن كان هذا المفهوم يتحدد في المجال الديني ويكاد ينحصر عليه مع خطاب «جون لوك» في القرن السابع عشر، ومع خطاب «فولتير» في القرن الثامن عشر وإن بدرجة أقل، إلا أنه تزحزح كليا مع خطاب «بوبر» وتحول من المجال الديني إلى المجال الفكري، وهذه هي سمة اللحظة التاريخية التي تسجل ل»بوبر» وتذكر له. ومن هذه الجهة، يمكن تبيان أحد الجوانب المفسرة لاقتراب «بوبر» من خطاب «فولتير» وابتعاده عن خطاب «لوك»، لكون أن «فولتير» اقترب في خطابه التسامحي من المجال الفكري بخلاف «لوك» الذي حصر خطابه التسامحي في المجال الديني، أو أن خطاب «فولتير» يتيح هامشا ممكنا من الاقتراب إلى المجال الفكري أوسع وأوضح من خطاب «لوك». وإذا أردنا أن نوازن الموقف يمكن القول إن في عصر «لوك» كان من الضروري التركيز على التسامح في المجال الديني، وهكذا في عصر «فولتير»، أما في عصر «بوبر» فقد تغير الحال وبات من الضروري التركيز في هذا المفهوم على المجال الفكري. واللفتة المهمة التي أضافها «بوبر» في هذا النطاق، أنه اعتبر أن التسامح الفكري والمعرفي إنما يتحقق من خلال مبادئ أخلاقية، لكون أن التسامح في نظره له جانب فكري من جهة وله جانب أخلاقي من جهة أخرى. أما ما لم يفصح عنه «بوبر» فهو أنه وجد على ما يبدو أن الحديث عن التسامح يمثل مدخلا لتأكيد علاقته بالفلسفة الأخلاقية، ولرد الاتهام الموجه له في اعتبار أن خطابه الفكري جاء خاليا من أية مظاهر وقسمات لها علاقة بالفلسفة الأخلاقية.