غداً، تحتفل الولاياتالمتحدةالأمريكية، بل وكل العالم المتحضر بميلاد الزعيم الأمريكي الأسود مارتن لوثر كينج، في ما يُمكن أن يُطلق عليه باليوم العالمي للاعنف أو الاحتجاج السلمي، حيث جسد هذا الثائر الرائع أنموذجاً فريداً في المطالبة المشروعة بالحقوق والمكتسبات، وذلك بتبنيه نهجاً سلمياً وسلوكاً لاعنفياً، استطاع من خلالهما تحقيق ما عجز عنه الثوار الآخرون خلال عقود طويلة من الكفاح والنضال من أجل نيل الحقوق وانتزاع الحريات. إن مبدأ اللاعنف، كقيمة دينية وحضارية وإنسانية وفكرية، بحاجة لأن يتجذر في الكثير من تفاصيلنا، في بيوتنا، في مدارسنا وجامعاتنا، في محاكمنا، في مساجدنا، في هيئاتنا ودوائرنا، في شوارعنا، في ملاعبنا، في أنظمتنا، لكن قبل كل ذلك، في فكرنا ومزاجنا وقناعتنا ومبدأ اللاعنف، فكرة خطيرة وملتبسة، وتحتاج إلى قدرة فائقة من الوعي والحكمة والفرز، إضافة إلى توفر حزمة من القناعات والمرتكزات لكي تتحول إلى أسلوب يُمكن استخدامه، وواقع يُمكن الوثوق به. وتُعتبر سياسة اللاعنف في الإسلام، من أهم القيم والمبادئ والمفاهيم التي تؤكد عليها النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والنظريات الفكرية، ففي آية 34 من سورة فصلت، يقول الله عز وجل " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وفي العصر الحديث، وتحديداً في القرن الثامن عشر الميلادي، يُعتبر المفكر الأمريكي ذو الأصول الفرنسية هنري ديفيد تورو (1817 1862م ) صاحب فكرة العصيان المدني، هو الرائد والمُلهم لكل الثوار والمناضلين والنشطاء الذين رفضوا استخدام العنف والصدام والمواجهة المسلحة، واختاروا التحركات السلمية والاحتجاجات البيضاء لنيل حقوق ومطالب مجتمعاتهم، كما يُعتبر الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي، والمناضل الأمريكي الكبير مارتن لوثر كينج هما "أيقونتي" النضال السلمي والاحتجاج اللاعنفي في العصر الحديث، بل وفي كل العصور. ويُعتبر 15 يناير من كل عام، عطلة رسمية وعيداً وطنياً في أمريكا لتكريم ذكرى هذا الزعيم الخالد. ولكن، من هو مارتن لوثر كينج، هذه الشخصية الاستثنائية التي خُلدت كأحد أهم رموز النضال السلمي على امتداد التاريخ الإنساني. ولد مارتن لوثر كينج في 15 يناير من عام 1929م في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا، وكان والده كاهناً. وقد كرس هذا الشاب الصغير الذي أصبح قساً معمدانياً كل حياته التي لم تتجاوز ال 40 عاماً، من أجل ضمان المساواة في الحقوق بين الأمريكيين من أصول أفريقية وباقي الأقليات الأخرى التي كانت تُعاني من التمييز والتهميش في المجتمع الأمريكي. وقد ارتبط اسم هذا الثائر الحالم بالدعوة إلى الحرية ونبذ العنصرية، ومازالت أصداء تلك الكلمة الخالدة التي ألقاها أمام أكبر تظاهرة في تاريخ الحقوق المدنية ترن في آذان العالم، كل العالم. “I have a dream” ، بهذه الجملة الساحرة بدأ خطبته الشهيرة التي جاء فيها " لديّ حلم بأن هذه الأمة - أمريكا - ستنهض ذات يوم وتعيش المعنى الحقيقي لعقيدتها، لديّ حلم بأن أطفالي الأربعة سيعيشون في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بلون بشرتهم ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم". ورغم الصعوبات والمضايقات والتحديات التي تعرض لها هذا الشاب الأسود المنحدر من أصول أفريقية، والذي لم يكن يسمح له بدخول المدارس الرسمية، أو يحق له الجلوس في الأماكن المخصصة للبيض في الباصات، وكذلك تعرضه للاعتقال والاغتيال أكثر من مرة، رغم كل ذلك، استطاع أن يتفوق في دراسته ويحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوسطن عام 1955م، كان آنذاك في عمر السادسة والعشرين. وقد خاض هذا المناضل الرائع عدة معارك، وحقق لأبناء جلدته الأمريكيين من أصول أفريقية - بل ولكل المهمشين والمحرومين في العالم - الكثير من الانجازات والمكتسبات وعلى أكثر من صعيد. لقد سلك مارتن لوثر كينج طريقاً واحداً لم يحد عنه أبداً، وآمن بأسلوب لم يُغيره مطلقاً، الاحتجاج السلمي لنيل الحقوق والحريات. لقد استطاع بنهجه السلمي أن يُجبر الحكومة الأمريكية لإقرار قانون الحقوق المدنية الذي أنهى سياسات الفصل العنصري في بلد كان يُعتبر النموذج الأفضل في الديمقراطية. لقد لمع نجم ذلك الزعيم السياسي والخطيب المفوه الذي كان يسحر العقول والألباب حينما يتكلم، كما اعتبر تحركه السلمي من أهم 10 حركات احتجاجية في التاريخ الإنساني. وفي 4 ابريل من عام 1968م، اغتيل مارتن لوثر كينج على يد جيمس إيرل راي، وهو أحد غلاة البيض العنصريين وصاحب سجل حافل بالإجرام، اغتاله أثناء وقوفه على شرفة غرفته بأحد فنادق ممفيس بولاية تينيسي، حيث كان يستعد لتزعم مسيرة احتجاجية تضامناً مع عمال النظافة المضربين في المدينة. وقد كُرم هذا المناضل الرائع كثيراً، في بلده أمريكا وخارجها، وفي حياته ومماته، كما حصل على جائزة نوبل للسلام لدعوته للاعنف، وكان أصغر رجل في تاريخ الجائزة، حيث لم يتجاوز ال 35 من عمره، وقد تبرع بقيمتها التي تُقدر ب "54 ألف دولار" لدعم حركة الحقوق المدنية. وفي مقارنة سريعة بين تجربتيْ مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس المناضل الأمريكي الأسود الذي اعتنق الإسلام وانضم لجماعة "امة الإسلام"، نصل إلى حقيقة برهنها التاريخ وأكدتها الأحداث. فالاثنان ينحدران من أصول أفريقية، وعاشا الفترة نفسها، ويتمتعان بكاريزما قيادية ملهمة، ويملكان قدرة فائقة في التأثير على الجماهير، كما انهما متقاربان في العمر، بل واغتيلا في نفس الفترة تقريباً، مالكوم في عام 1965م، ولوثر في عام 1968م. لكن، لماذا نجح مارتن لوثر كينج، وظل اسمه متوهجاً ومشعاً وملهماً حتى الآن، بينما لم يحظ مالكوم إكس بنفس القدر من الشهرة والاستمرارية والإلهام؟ بإجابة بسيطة جداً، وهي اللاعنف. لقد انتهج مارتن لوثر كينج متأثراً بقدوته الملهم الأكبر المهاتما غاندي الزعيم الهندي الشهير مبدأ اللاعنف في كل تحركاته واحتجاجاته ومطالباته، ولم يستخدم السلاح أو العنف بمختلف ألوانه ومستوياته، مهما حصل من الطرف الآخر. لقد كان واضحاً ومحدداً في أهدافه وحركته ونضاله، لقد كان يعرف ما يُريد جيداً، وكان يُشرك الآخر في حساباته، وكان يُقاتل من أجل أن يكسب الأعداء قبل الأصدقاء. أما مالكوم إكس، ومن قبله أليجا محمد زعيم جماعة "أمة الإسلام"، فقد اختط لنفسه القطيعة مع كل من يخالفه، سواء من السود أو البيض، وكان لا يخرج من دائرته الضيقة التي لا تسمح له برؤية شاملة وواسعة. وفي لقاء تلفزيوني قال مالكوم في معرض حديثه عن لوثر: " إن منهج الدكتور كينج غير واقعي، إنه منهج مشكوك فيه، وبالتأكيد لن يصل إلى الهدف الصحيح". لقد حقق مارتن لوثر كينج كل أهدافه وأكثر، بل إنه أصبح أيقونة للتغيير السلمي ورمزاً لمنهج اللاعنف. لا أحد يُنكر، بأن ظاهرة العنف كفلسفة ومنهج وسلوك تكاد تُهيمن على عموم المشهد العالمي، وما شهده العالم العربي من تمظهر وتفشّ لهذه الظاهرة الفتاكة في فترات زمنية مختلفة وفي أكثر من بلد، يؤكد خطورة ظاهرة العنف في واقع العالم العربي والإسلامي، خاصة حينما تطرحها وتتبناها بعض التيارات الدينية والفكرية باعتبارها - أي ظاهرة العنف - تفسيراً فقهياً لمفاهيم حساسة كالجهاد والقتال والبراءة من الأعداء والدفاع عن العقيدة، بينما تغيب، أو تُغيّب مفاهيم رائعة كالسلم واللاعنف والحوار والتسامح وقبول الآخر وغيرها من القيم والمفاهيم الايجابية التي يحث عليها الإسلام وكل الشرائع والقوانين. إن مبدأ اللاعنف، كقيمة دينية وحضارية وإنسانية وفكرية، بحاجة لأن يتجذر في الكثير من تفاصيلنا، في بيوتنا، في مدارسنا وجامعاتنا، في محاكمنا، في مساجدنا، في هيئاتنا ودوائرنا، في شوارعنا، في ملاعبنا، في أنظمتنا، لكن قبل كل ذلك، في فكرنا ومزاجنا وقناعتنا..