خرجت من منزلي وأنا أبحث عن غريب يشاركني لذة حديث لستُ فيه وليس فيه! لا يسألني عن حالي ولا يهمني أن أعرف حاله.. كل ما يهمني هو أن أقضي وقتاً ممتعاً في ثرثرة بريئة! قررت أن أذهب إلى البعيد هناك، إلى الزمن الماضي أبحث لي عن جالس على رصيف التاريخ لديه من الحديث ما يغريني لقضاء وقت معه ولديه من الرغبة في الحديث ما يغريني للاستماع إليه. وأنا أسير في طريقي لمحت ذلك الرجل المتدثر بالبياض، صاحب اللحية البيضاء والشارب الأبيض المفتول.. يجلس أمام زهرة يتأملها. اقتربت منه ودققت في ملامحه، وإذا أنا أمام شاعر البنغال الشهير وأديب الهند العظيم طاغور بلحمه وشحمه! قلت له هل مازلت يا طاغور تتحدث مع الأزهار والأنهار والطيور؟! قال لي: تعني هل ما زلت تتحدث إلى الطبيعة وتتحدث إليك؟! قلت: هو ما تشاء.. رغم يقيني أنها لا تتحدث إليك أبداً، لكنك كأي ثرثار آخر تريد أن تتحدث دون أن يقاطعك أحد! قال: هذا أنت تقاطعني ورغم مقدرتي على مغادرة المكان إلا أني أبادلك الحديث.. مع أني لا أعرفك أبداً ولا أدري من أي مكان أو زمان أنت! يا أخي في الإنسانية نحن نتجاهل الطبيعة رغم أننا نهرب إليها حين نريد الفرح لتكون لنا كموسيقى تصويرية تمنح الموقف بعداً آخر! نهرب إليها حين نحزن لنبكي دون أن يأتي عابث ليتقمص دور الوصي علينا ويمنعنا حقنا في البكاء! نهرب إليها حين نريد أن نغري آخر بمرافقتنا وكأننا نقول له لن تشعر بما نسببه من ملل فهذه الطبيعة ستكون متنفسك! نهرب إليها حين نريد أن نفاخر بقدرتنا على السفر واستكشاف عوالم الأرض! يا أخي الطبيعة تشعر بنا تماماً، وتفرح بنا، وتحزن من أجلنا ! هل تعتقد أن هذه الزهرة التي تمنحك عبيرها لا تدري بأنك ستقطفها وتحولها إلى يباس لمجرد أنك معجب بها؟! هي تعلم ذلك لكنها أكرم من أن تخفي عبيرها من أجل قاتل مثلك! يا أخي حين تقف أمام البحر أشكره على أنه مازال يمنحك كنوزه رغم قدرته على إغراقك! حين تقف أمام الجبل أشكره على أنه مازال متماسكاً رغم يقينه أنك تمارس هدم أشقائه! حين تقف أمام طائر صاحب صوت عذب أشكره أنه مازال يغني رغم يقينه أنك تحمل بندقية! نهض طاغور من مكانه وأعطاني ظهره وهمّ بالمغادرة! كنت سأقول له إنك فعلاً مجرد ثرثار.. لكني قلت هي مجرد ثوانٍ وسيرحل.. طلبت منه نصيحة أخيرة فقال وهو يمشي: «عنَد ُشروِق الَشْمِس..افتحْ قلبَك وارفعُه كَزهرٍة تتَفتّحْ.. َوعند الغروْب.. احن رأسك.. َوفيْ الصمت، أكمل ِعبَادةَ اليوم!». ابتعدَ عني وأنا أتأمله حتى أصبح بيني وبين الشمس وذهب وكأنه يأخذ الشمس معه للمغيب.. ذهب ولم يبقَ منه إلا ظله الطويل الممتد وكأنه يدل على اتجاه الغروب! قلت: يا له من ثرثار كان يظن أن تلك الزهرة تستمع إليه.. التفت إليها ووجدتها قد ذبلت وكأنه سرق منها روحها قبل أن يرحل! حاولت اللحاق به فلم أستطع حاولت العودة إلى تلك الزهرة لأقطفها واحتفظ بها فلم أجدها في مكانها! شعرت بدوار شديد.. وأغمضت عيني ثم فتحتها فوجدت أمامي لوحة لزهرة تبتسم وفي يدي ديوان طاغور.