رابندرانات طاغور. اسم ينطوي على قيمة أدبية وفلسفية وصوفية عالية. يعرفه الشرق والغرب معاً، فهو حظي من اسمه، الذي يعني «الشمس المشرقة»، بنصيب وافر، فكان تجسيدا لنبوءة مبكرة لوالده الذي قال: «إن الأرض ستنعم، ذات يوم، بنوره الوضاء». هو من القلائل الذين فاقت شهرتهم، شهرة جائزة نوبل. كثيرون حازوا هذه الجائزة وتسلقوا سلم المجد الأدبي بفضلها، وبعضهم طواه النسيان. لكن هذه الجائزة، التي نالها طاغور عام 1913، بقيت تفصيلاً بسيطاً في تجربته الغنية، الواسعة التي تخطت حدود بلاده الهند لتكون حاضرة بمختلف لغات العالم. اللغة العربية، بدورها، استقبلت كتابات طاغور، وطبعت دور النشر مؤلفات ومختارات عدة له، لعل آخرها الطبعة الجديدة التي صدرت عن دار المدى بعنوان «رابندرانات طاغور.. روائع في المسرح والشعر». وهذا الكتاب (411 صفحة) يعود ترجمته إلى القاص والروائي السوري بديع حقي (1922 - 2000)، وهي ترجمة تتسم ببلاغة أدبية رصينة، وتحفل بمفردات وصياغات توظف بإفراط «المحسنات البديعية» في التراث السردي العربي. وهو يضم أربعة دواوين شعرية، ومسرحيتين، فضلاً عن خواطر شعرية جاءت في ختام الكتاب بعنوان اليراعات (وهي فراشات تضيء ليلاً). واللافت أن فكرة هذه الخواطر جاءت عندما كان الشاعر يقوم برحلة في الصين واليابان، فيطلب منه بعض المعجبين أبياتاً من الشعر لتطرز على مناديل حريرية، أو تنقش على مراوح اليد. وهذه الخواطر تنطوي على حكم ومعان عميقة، إذ يكتب في ومضات خاطفة: «إن غيومي التي تضنيها الظلمات/ تنسى أنها هي نفسها التي حجبت الشمس»، وكذلك يقول: ترمق الشجرة، بشغف،/ ظلها الرائع الذي تسفحه/ ولكنها لا تستطيع البتة، أن تضمه»، وأيضاً: «الإيمان هو ذلك الطائر الذي يتوقع مطلع النور،/ فيغرّد، والفجر مظلم، لم ينشق بعد». الحادثة الأولى التي تركت أثراً عميقاً في نفس طاغور هي رحيل أمه المبكر، إذ كتب معلقاً: «لقد حرمني القدر أمي، وأنا بعد فتى صغير، فأصبحت وحيداً ألوذ بنافذتي وأتأمل في الطبيعة وأرسم في مخيلتي ما يترقرق في الكون من صور شتى. لقد كانت الطبيعة رفيقي الذي وجدته إلى جواري دائماً». تكاد هذه العبارات تشكل المفتاح الرئيس للدخول إلى عوالم هذا الأديب والفيلسوف الهندي. الطبيعة بمختلف صورها وتجلياتها حاضرة، أبداً، في كتاباته، حتى ليظن المرء، وهو يطالع هذه «الروائع»، أنه يسير في روضة غنّاء. يشم رحيق الأزهار، ويصغي الى حفيف الشجر وخرير الماء وخفقة جناح الطير. يرقب الندى والجداول والسهول، ويرصد الفجر الذي يعم الكون بضيائه... كل مشهد أو حركة أو تفصيل يحدث في الطبيعة نجده غافياً بين سطور طاغور. وهو لا يوظف جمال الطبيعية ولا يستعين بفتنتها وتوازنها واعتدالها، إلا لكي يصوغ حكمة، أو يبث مقولة أو أمثولة تعبر عن فكرة فلسفية مكثفة. وهذا ما لاحظه الكاتب الفرنسي رومان رولان بعد لقاء مع الأديب الهندي، إذ كتب: «حين تقترب من طاغور يناسم نفسك شعور أنك في معبد، فتتكلم بصوت خفيض. وإن أتيح لك، بعد هذا، أن تتملى قسمات وجهه الدقيقة الأبية، فإنك واجدٌ خلف موسيقى خطوطها وطمأنينتها، الأحزان التي هيمن عليها، والنظرات التي لم يداخلها الوهم، والذكاء الجريء الذي يواجه صراع الحياة في ثبات». ولد طاغور في مدينة كلكتا في 1861 لأب سليل عراقة ونبل؛ يعد من أعلام التصوف. ذاق طاغور في طفولته المبكرة هناءة العيش، وأتاحت له هذه النشأة أن ينهل من ينابيع الفن الصافية من رسم وغناء وشعر استحوذ على اهتمام أفراد أسرته المثقفة. كان يلقى اهتماماً خاصاً من والده الذي اصطحبه ذات يوم في رحلة الى جبال الهمالايا. ستترك هذه الرحلة أثراً في مشاعر الطفل الذي عرف، منذ تلك اللحظة، عظمة الكون وجماله و «التأمت الصور والطيوف والظلال، متناغمة، مؤتلفة، لتتسرب ذات يوم إلى كتاباته». بيد أن رخاء العيش هذا لم يدم طويلاً، فسرعان ما رحلت والدته، فلاذ بالطبيعة وأَنِس إليها؛ يناجيها ويتعلم منها، بل رأى فيها خلاصه. في العام التالي انتحرت شقيقته، مما سبب له صدمة هائلة، وقاده ذلك إلى محبة الإنسانية جمعاء، بدلاً من التمسك بالحب الفردي والخاص. حين شبَّ الفتى أراد والده أن يدرس القانون، فأرسله إلى كلية «برايتون» في إنكلترا، غير أنه لم يجد في دراسة القانون ما يرضي لهفته الجامحة إلى الفن والأدب. لكنه استفاد كثيراً من وجوده في إنكلترا بإطلاعه على روائع شكسبير وملتون ووليم بليك وغيرهم. وعند عودته الى بلاده أصدر ديوانه الأول «أغاني المساء» الذي قوبل بالثناء والتشجيع، وأردفه بديوان «أغاني الصباح» الذي نحا فيه نحو الرمزية. وأنشأ عام 1901 في كلكتا مدرسة للنشء قائمة بين أشجار الغابة أسماها مرفأ السلام، وألقى فيها محاضرات ضمها كتابه الشهير «سادهانا». في هذه المرحلة خبر طاغور، من جديد، مرارة الموت، إذ فقد زوجته ولحق بها ابنه وابنته وأبوه في فترات متتابعة. لكن عاصفة الموت الجديدة هذه أشعرته، كما يقول: «بالنقص وحفزتني على نشدان الكمال، وألهمتني أن العالم لا يفقد ما يضيع فيه». هذا الحزن الذي استبد بقلبه طبع شعره بطابع الأسى كما في قصائد ديوانه «جيتنجالي»، المدرجة في هذا الكتاب. قصائد مترعة بمعاني الموت والحزن الشفيف دفع باندريه جيد للقول: «ليس في الشعر العالمي كله ما يدانيها عمقاً وروعة». أحس أنه مثل زهرة انتُزِعت بتلاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمرة التي سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها، ومع ذلك فقد جعل منه صفاؤه الواسع وضبطه لنفسه إنساناً نادر العظمة، ينشد في إحدى أغانيه: «أنا هذا البخور الذي لا يضوّع عطره ما لم يُحرق، أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعَل». وتعاقبت، بعد ذلك، كتابات طاغور في الفلسفة والقصة والرواية والشعر والمسرح، فضلاً عن موهبته المتأخرة في الرسم. وعلى رغم هيمنة هذا المنحى الأدبي الشجي، وتلك النبرة الغنائية على هذه «الروائع». بيد أن طاغور لم ينسَ قضيته الوطنية، فقد دعا على الدوام الى خلاص شعبه، وقدم دروساً في «التربية الوطنية»، كما حصل إبان ثورة البنجاب عام 1919 التي قابلتها سلطات الاستعمار البريطاني بسياسة الحديد والنار، فقام طاغور بإرجاع لقب «سير» إلى ملك انكلترا الذي منحه إياه من قبل إعجاباً بشعره واعترافاً بعبقريته. واستمر في نسج مقالات تؤجج الشعور الوطني وتحرض على مقاومة الاستعمار، سائراً على درب الزعيم الهندي غاندي الذي اعتبره «منارة الهند». في هذه المختارات نعثر على قرائن لما سبق ذكره. نصغي الى أصداء صوت معذب؛ حنون يسعى الى معانقة الإنسانية بأسرها. وهي كتابات تزخر، فضلاً عن ذلك، برقة اللفظ وبموسيقى عذبة؛ ناعمة حتى بعد نقلها الى لغة أخرى. وفي موازاة عباراته الرشيقة السهلة، نجده يلوذ بالرمزية حيناً، وهو يعلل هذا المنحى بقوله: إنك لو شممت أريج زهرة، وقلت «لا أفهم شيئاً»، فالجواب يعني أنه ليس ثمة شيء يتطلب الفهم، فليس هناك سوى الأريج، والشعر هو كذلك. وهو، إلى ذلك، كان شغوفاً بالأساطير والخرافات التي تعج به تلك الجغرافيا الهندية المترامية الأطراف، فيوظفها على نحو واعٍ بحثاً عن لباب الحكمة في هذه الحكايات الشعبية الخرافية، وذلك الموروث الشفاهي الغني لتلك المنطقة. بهذا المعنى، وكما يقول حقي، فإن كتابات طاغور لا تقتصر على بلاغتها اللغوية وتقنيتها الفنية العالية، بل هي، في نهاية المطاف، «رسالة فكرية إنسانية تماثل في نبلها وصفائها رسالة المفكرين المصلحين العظام». ولا مبالغة في ذلك، على اعتبار أن عبارته وفكرته وصوره، على رغم تنويعاتها، تنهض على قاعدة أساسية واحدة تتمثل في محبة الإنسانية: «إن قلبي لن يجد سبيله نحو من ترافقهم/ بل نحو من لا رفيق له، بين الفقير والمعدم والضائع». وفي هذه الروائع سنعثر على مسرحية «دورة الربيع» القريبة من فن الشعر والغناء، فحوارها يتسلسل صوراً شعرية خلابة، كما تتألق فيها أفكار فلسفية وحكم معبرة. وهو ما نجده، كذلك، في مسرحيته «شيترا» التي اقتبس موضوعها من الملحمة الهندية الشهيرة «المهابهاراتا»، وخاتمة الكتاب هي اليراعات التي تنبض بأفكار عميقة؛ خاطفة: «إن التعصب، في حفاظه على الحقيقة،/ يعتصرها بقوة على نحو يفضي بها الى الموت»، وكذلك يقول: «العدد اليسير أكثر اعتباراً من الحشد الكبير»، وكذلك: «تجد الأَرَضَة، أنه من المستغرب المنافي للمعقول/ ألا يقرض الإنسان كتبه ويأكلها»، وأيضاً: «تخسر الزهرة جميع أفوافها لتظفر بالثمرة». والحقيقة أن طاغور، الذي رحل في 8 آب (أغسطس) 1941، خسر كل مباهج الحياة ليظفر بالثمرة الناضجة، ووظف سنوات عمره في سبيل رفعة الكلمة، وسمو الحرف. ومهما سعى المرء الى الإحاطة بتجربته الواسعة والغنية فلن يقدم سوى جزءاً يسيراً من ملامح موهبة تعددت وتنوعت على نحو فريد، فطاغور الشاعر والقاص والمسرحي والرسام والموسيقي، «مذهل في مداه، ومذهل في عوالمه» التي جعلته أحد أعظم كتاب الهند في مختلف العصور.