بذلت الدولة جهوداً مضنية لعلاج بطالة السعوديين في سوق العمل، ومازالت هذه المعضلة قائمة وعلى رأس أولويات الدولة. سوق العمل ضخم ويستقطب عشرة ملايين أجنبي، وسياسات تدفع باتجاه تشجيع وفرض توظيف السعوديين، إلا أن أعداد المواطنين الباحثين عن العمل في تزايد، في نفس الوقت يشتكي القطاع الخاص ويطالب بالمزيد من الاستقدام ويخشى صادقاً ضعف قدرته على الاستمرار. أين الخلل؟، حتى منتصف السبعينات الميلادية كان هناك توازن نسبي بين النمو الاقتصادي والقوى العاملة السعودية، اختل هذا التوازن بسبب زيادة وتيرة التنمية في ذلك الوقت وشح اليد العاملة، ما دعا الدولة إلى تبني سياستين، الأولى: استقطاب القوى العاملة السعودية للقطاع العام والشركات الحكومية بمميزات عالية، والثانية: فتح باب التوظيف من كل أنحاء العالم للقطاع الخاص. هذا التحول قسم الطلب على القوى العاملة إلى قسمين: قوى عاملة أجنبية يستهدفها القطاع الخاص بشكل رئيس، وقوى عاملة وطنية في القطاع العام، وبعد انخفاض وتيرة النمو لم تُراجع السياسات بشكل سريع، ما أدى إلى تشوهات في بيئة الأعمال التي يمارس فيها القطاع الخاص نشاطه، وإلى ترهل وظيفي حكومي أثقل كاهل الدولة. إضافة إلى تشوهات اقتصادية في ريادة الأعمال وفرص الاستثمار، والتسربات المالية من الاقتصاد. ما الحل؟ النظر بشكل أوسع إلى علاج اختلالات سوق العمل وما نتج منها من بطالة للسعوديين وظواهر مشوهة للقطاع الخاص، والتركيز على علاج جذور المشكلة من خلال خمسة محاور لتكوين سوق عمل صحي يحول الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد حيوي منتج، كل محور يعالج تشوهات حدثت في سوق العمل: أولاً: إيجاد سوق عمل واحد يحجم صلاحية القطاع الخاص في الاستقدام ويستحثه على استقطاب الموظفين من داخل السوق وليس من خارجه. يُعد وجود سوقي عمل بمحركات طلب مختلفة أهم التشوهات الواجب علاجها، نظام التأشيرة والكفالة كان ولا زال أهم الآليات التنفيذية التي آذنت بانقسام سوق العمل إلى: سوق قوى عمل سعودية والآخر أجنبية، فكان الخيار الأول للمواطن الالتحاق بوظائف حكومية، والخيار الأول للقطاع الخاص الاستقدام. العلاج بالحد التدريجي من صلاحيات القطاع الخاص في رسم حجم ونوع القوى العاملة الأجنبية في المملكة بآليات جديدة بديلة سيحث الممارسة الصحية للقطاع الخاص بحصوله على احتياجه من داخل السوق وليس من خارجه سواء من السعوديين أو الأجانب خاصة مع تزايد عدد قوى العمل السعودية. ثانياً: خلق بيئة توظيف مبنية على الكفاءات وتقليل الفجوة بين جاذبية الأجنبي والسعودي، حتى وقت قريب لم يكن للأجنبي حرية الانتقال من عمله الوظيفي إلا بإذن من كفيله مما جعل التطور الوظيفي صعباً ويعتمد على صاحب العمل في المقام الأول، هذه الآلية نفّرت القوى العاملة الأجنبية المتميزة من القدوم إلى المملكة وجعلتها الخيار الأخير مؤدياً إلى انخفاض جودتها وظهور سلوكيات بالغة الخطورة على الاقتصاد. في ظل صعوبة التطور المهني للأجنبي إلا أن تطوير الدخل كان أكثر سهولة بسبب سهولة الاستقدام وضعف الرقابة، أفضى ذلك لانتشار ظاهرة التستر حيث يعمل الأجنبي لنفسه تحت غطاء قانوني صوري، وأدى إلى سعي الأجنبي لأعمال إضافية في غير مجاله وبالتالي المزاحمة في السوق والحد من نشوء نماذج أعمال وفرص استثمارية. الرسالة يجب أن تكون واضحة: القوى العاملة الأجنبية مسموح لها الوظيفة فقط والتطور فيها مع حرية الانتقال، أي أعمال إضافية أو أنشطة استثمار يجب أن تكون عبر قنوات رسمية وبشفافية تامة. ثالثاً: رفع مستوى جودة التنظيمات المهنية، لرفع مستوى الجودة ولزيادة الاستثمار في الطاقة البشرية، استهداف القطاع العام (والشركات الحكومية) للكفاءات السعودية ساهم في خفض كبير لمعروض الكفاءات للقطاع الخاص، سواءً للوظائف أو لريادة الأعمال. هذه الظاهرة مع ما ورد سابقاً قاد إلى نمو غير احترافي للقطاع الخاص في غياب رواد أعمال متخصصين أو ممارسين مهنيين (أطباء، مهندسين، قانونيين، محامين.. الخ)، انعكس هذا الخلل في القطاع الخاص بأشكال مختلفة مثل الغش التجاري وغيرها مسبباً تسربات اقتصادية ضارة وتحجيم سوق العمل للمواطنين. ويرتبط هذا العزوف بضعف تنظيم الممارسات المهنية وبطء نموها وضعف مردودها، مقابل وفرة الأجانب الذين يقبلون بمردود أقل مما جعل الانخراط في الممارسة المهنية للمواطنين قليلاً في مقابل القطاع العام (والشركات الحكومية). دعم الهيئات التخصصية لوضع التأهيل المناسب للمهن والمهن المساعدة، ووضع سياسات محتوى محلي ومشتريات ذكية سيشكل فارقاً كبيراً في إعادة رسم السوق وتركيبة الوظائف فيه. رابعاً: سياسات توطين تزيد المشاركة الفاعلة للسعوديين في القطاع الخاص، تشكل لدينا بسبب التراكمات السابق ذكرها قطاع خاص فريد من نوعه، الأفضلية فيه للقوى العاملة الأجنبية في فهم الاحتياج الوظيفي وفي استكشاف فرص الأعمال وأصبحت العمود الفقري لأعمال القطاع الخاص. نجاح سياسات توطين الوظائف في الشركات الحكومية وقطاعات محددة مثل البنوك أثبتت جدواها إلى حد كبير، في المقابل لم يحالف سياسات توطين وظائف القطاع الخاص النجاح وخلقت ظواهر سلبية مثل السعودة الوهمية. لا بد من سياسات التوطين تنبع من فهم دقيق لبيئة الأعمال والأدوار الوظيفية المؤثرة واستهداف سعودة المهن والوظائف التي تتحكم في مفاصل السوق (المشتريات، التمويل، الإشراف الهندسي وغيرها) لإعطاء الأولوية للسعوديين لاكتشاف الفرص سواءً وظيفية أو ريادة أعمال وفرص استثمار. خامساً: رفع مستوى الاحترافية في التعاملات التجارية لإعطاء فرص متساوية للعاملين في السوق، التحسن الملحوظ في الحماية القانونية للتعاملات (التجارية والوظيفية) لا يواكب التسارع في التعقيد الاقتصادي للأعمال في المملكة، ولازال القطاع الخاص يعتمد على الثقة في التعاملات، ومع سيطرة القوى العاملة الأجنبية واستمرارية الثقة كمكون رئيس للتعاملات، تشكلت التكتلات من أصحاب الجنسية الواحدة في بعض القطاعات (مثل البيع بالآجل بين تجار الجملة والتجزئة) مما يعطي الأجانب الأفضلية على السعوديين. والحماية تتكون من شقين: الأول وجود الأنظمة التي تحمي الجهات المتعاملة (لزيادة الثقة في السوق وتقليل الحاجة للاعتماد على الثقة الشخصية)، والشق الثاني يتعلق بالإجراءات لتحصيل الحقوق وتسريعها. رفع ثقة التعاملات يتطلب سياسات ذكية ومراقبة فاعلة للأسواق من الجهات الحكومية، إلا أن تكامل هذه العوامل ضروري لنقل السوق من الاعتماد على تكتلات جنسيات ذات مصالح مشتركة لا مكان للسعودي فيها إلى سوق تنافسية تقدم أفضل مستويات الإنتاجية. ختاماً، على متخذي القرار النظر بشكل جديد للمشكلة وتقديم حلول خلاقة تعالج الأسباب الجذرية لاختلالات سوق العمل وخلق سوق عمل صحي مليء بالفرص للعاملين وللقطاع الخاص، ولعل أهم خطوة تكمن في استبدال نظام الكفالة بآلية جديدة تكفل توازن العرض والطلب وتساهم في حل الكثير من التشوهات. ومن المتوقع صعوبة البدايات وظهور بعض التأثيرات السلبية، ولكن على المدى البعيد فإن ذلك سينعكس إيجاباً على خلق دورة اقتصادية أكثر كفاءة وإبقاء الأموال داخل الاقتصاد.