التقيد بمذهب بعينه وعدم الإفتاء خارج نطاقه ضيق لا يؤيده دليل، والانفتاح على الفقه الإسلامي بمختلف اجتهاداته وآرائه السديدة سعة مطلوبة شرعًا وعقلاً، لاسيما وكل هذه المذاهب مصدرها واحد عن الشريعة المطهرة، وهذا سرُّ بقائها.. تجد غالب العالم الإسلامي وعلى وحدة مرجعيته إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه في الاجتهادات الفقهية توزع إلى المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة: "الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي" فالحنفي نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي المتوفى سنة (150ه) وله سبعون سنة، وكان له قدرة عجيبة في الفقه والفهم وتخريج المسائل، وعَرَف له ذلك معاصروه، فهذا الأعمش وهو الإمام المحدِّث المشهور يُسأل عن مسألة فيقول: "إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز، وأظنه بورك في علمه" والإمام الشافعي الذي جاء بعده يقول: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة". وكان بالإضافة إلى علمه عاقلاً، قال عنه ابن المبارك: ما رأيت رجلاً أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتًا وحلمًا من أبي حنيفة. وقال عنه - أيضًا - شريك وهو أحد الأعلام: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل. والمالكي نسبة إلى الأمام مالك بن أنس الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة، المتوفى سنة (179ه) وله تسع وثمانون سنة. قال عنه الإمام الشافعي - وهو تلميذ له -: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم" وقال: "مالك معلِّمي، وعنه أخذتُ العلم". وكما عُرف أبو حنيفة بالعقل عُرف مالك كذلك: دخل - مرة - على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، فسأله عن أشياء منها حلال ومنها حرام، فلما أراد مالك الانصراف قال له أبو جعفر: أنت والله أعقل الناس، وأعلم الناس. ومن عقله: أن أبا جعفر أراد أن يوزع كتاب مالك "الموطأ" في جميع البلدان ويأمر بأن يلتزم الناس باختيارات مالك في المسائل، فنهاه مالك عن ذلك، وقال: دعِ الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. والشافعي نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس المطلبي الشافعي المكي المتوفى سنة: (204ه) وله أربع وخمسون سنة. والشافعي من عجائب الدنيا أخذ علم مالك تلمذة عليه، ثم أخذ علم أبي حنيفة بواسطة تلميذه محمد بن الحسن حيث بلغ مجموع ما كتبه عنه "وِقْرَ بعير". وكان كالإمامين أبي حنيفة ومالك عاقلاً، فمع أنه عرف بالمناظرات العلمية فلم يكن يودُّ أن تكون هذه المناظرات سببًا للنفرة، يقول يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته - يومًا - في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة. والحنبلي نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل الذُّهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي المتوفى سنة: (241ه) وله سبع وسبعون سنة بلغ من الإمامة مبلغًا عظيمًا حتى عُرف بإمام أهل السنة، وكان لاطلاعه الواسع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم أثر كبير في جودة مذهبه، قال الشافعي له: أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيًا كان، أو بصريًا، أو شاميًا. وهذا ما لاحظه العلماء المعاصرون، أي إن اتساع علم أحمد بالسنة كان له الأثر البيِّن في جودة مذهبه، وإنما قلت العلماء المعاصرون لأنه اتسع نطاق المقارنة بين المذاهب في هذا العصر، وعن ذلك يقول الأستاذ الأزهري القدير الشيخ محمد أبو زهرة: إنَّ علم الإمام أحمد بالآثار كان يسعفه في فتح أبواب للشروط ظنَّ غيره ممن لا يعلم السنة كعلمه أنها مغلقة، فدراسة الإمام أحمد للآثار جعلته يفهم أن منطق الفقه الأثري يوجب الإطلاق والإباحة حتى يقوم دليل التقييد والمنع. وهو كالأئمة الثلاثة كان موفور العقل، ومن دلالات ذلك أنه كان يكره الشهرة كراهة شديدة، وإذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد، وذلك أن حب الشهرة يستخف العقل فكلما ازداد الإنسان حبًا لها ازدادت خفة عقله وبان ذلك في تصرفاته. كان لا بد من هذه الوقفات اليسيرة مع هؤلاء الأئمة ومن ثم نتحدث في نقاط محددة باختصار ووضوح عن تكوّن هذه المذاهب وبقائها عبر القرون والأجيال حيث لم تضق - باجتهاداتها المتنوعة وبمسالك اجتهاداتها المؤصلة - عن حاجات البشر ومصالحهم المتغيرة والمتجددة: أولاً: لا بُدَّ أن نعرف أن هؤلاء الأئمة لم يكونوا بصدد تأسيس مذاهب ينتسب إليها العلماء من بعدهم، وأخبارهم وسيرهم تدلُّ على ذلك، يقول الإمام مالك: "ما تعلمتُ العلم إلا لنفسي، وما تعلمت ليَحتاج الناس إلي، وكذلك كان الناس" فلاحظ كلمته: "وكذلك كان الناس" أي: كل العلماء في ذلك الوقت كانوا على هذه الطريقة. ثانياً: أنَّ هذه المذاهب الفقهية ليست ابتداعًا، وإنما هي علم تلقوه عمن سبقهم إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي نفسه عليه الصلاة والسلام، فعلى سبيل المثال: أبو حنيفة أخذ فقهه عن حماد بن أبي سليمان، وحماد أخذ عن إبراهيم النخعي، والنخعي أخذ عن علقمة، وعلقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه. وهكذا بقية الأئمة ولولا مساحة المقال لذكرت ما يخصُّهم. ثالثاً: ومما يزيد إيضاح النقطة السابقة أن هذه المذاهب الأربعة اندرج فيها مذاهب من سبقهم وعاصرهم، فإن الأئمة الأربعة سبقهم وعاصرهم من هو مثلهم أو يفوقهم، فهذا الشافعي يحدثنا عن الحال العلمية التي شاهدها فيقول: "العلم يدور على ثلاثة: مالك والليث وابن عيينة". فأين ذهب مذهب الليث وكذلك ابن عيينة. الواقع أن علم هؤلاء ومذاهبهم واختياراتهم اندرجت في المذاهب الأربعة، فمثلاً: ابن عيينة هذا الذي ذكره الشافعي لم يصنف في الفقه والأحكام وإنما صنف تلاميذه الذين هم الشافعي وأحمد وإسحاق فصارت اختياراته الفقهية في مذاهب هؤلاء الأئمة. أيضًا: الليث بن سعد الذي ذكره - كذلك - الشافعي لم يكن له تلاميذ ينشرون اختياراته ويتقلدونها وينظِّرون لها، ولكن اختياراته في الغالب توافق مذهب مالك الذي كان صاحبه وكثيرًا ما يتدارس وإياه المسائل ولو بالرسائل، فصار مذهبه مندرجًا في مذهب مالك. وهكذا بقية الأئمة مثل الأوزاعي والثوري والبخاري إلى غيرهم. رابعًا: أن هذه المذاهب الفقهية لا تُختصر في أصحابها، فيختصر - مثلاً - الحنفي في أبي حنيفة، بل كل مذهب هو مدرسة عريقة زاخرة باجتهادات الإمام نفسه وباجتهادات المجتهدين المنتسبين إلى مذهبه، يوضح ذلك: أن هؤلاء المجتهدين ربما خالفوا الإمام نفسه في بعض اختياراته، بل أكثر من ذلك ما ذكره ابن عابدين الحنفي: أن أبا يوسف وهو تلميذ أبي حنيفة وأبرز الحنفية خالف أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب. وذكر ابن عابدين أن الفتوى في مذهب الحنفية في كتاب القضاء على اختيارات أبي يوسف إذا خالف أبا حنيفة؛ لأن أبا يوسف مارس القضاء وأبا حنيفة لم يمارسه. خامسًا: من نعمة الله تعالى على الأمة الإسلامية هذه المذاهب الفقهية التي هي تفقه في نصوص الشريعة، وكم فرَّج الله علينا باختيارات هذا الإمام أو ذاك في بعض المسائل بما يتوافق مع مصلحة الزمان والمكان، فالتقيد بمذهب بعينه وعدم الإفتاء خارج نطاقه ضيق لا يؤيده دليل، والانفتاح على الفقه الإسلامي بمختلف اجتهاداته وآرائه السديدة سعة مطلوبة شرعًا وعقلاً، لاسيما وكل هذه المذاهب مصدرها واحد عن الشريعة المطهرة، وهذا سرُّ بقائها.