كان بعض طلبة العلم في عصره رحمه الله منحرفين عنه لسبب أو لآخر، فاتهموه بأنه كان متشيعا، وحاشاه! ولم يكن الشافعي كذلك، وإنما كان يحب أهل البيت، وكلنا يحب أهل البيت، وله في ذلك قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: يا راكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آلِ محمد فليشهد الثقلانِ أني رافضي فقيل للإمام أحمد رحمه الله: (إن هناك من يتهم الإمام الشافعي بالتشيع، ومنهم فلان وفلان! فقال الإمام أحمد رحمه الله: أنا لا أدري ما يقولون، ولكن والله ما رأيت من الرجل إلا خيرا، وإن الرجل من أهل العلم إذا آتاه الله تعالى ومنحه شيئا، وحرم أقرانه منه فإنهم يحسدونه على ذلك، ويرمونه بما ليس فيه). وهذه شهادة عظيمة للإمام الشافعي على لسان الإمام أحمد لم يحبها أقرب الناس إليه، والإمام أحمد يشير بهذا إلى بعض طلبة الحديث الذين وجدوا على الشافعي ما وجدوا. الشافعي وتهمة الاعتزال: أيضا اتهم الشافعي رحمه الله بالاعتزال، وذلك لأنه تتلمذ على يد رجل من أهل المدينة يقال له: إبراهيم بن أبي يحيى، أخذ عنه في حداثة سنه يوم كان يأخذ عن الإمام مالك رحمه الله، وكان الشافعي احتاج إلى مرويات إبراهيم هذا لما كان في مصر في آخر عمره، وكان ينقل عنه ويقول: حدثني الإمام إبراهيم، أو حدثني الثقة. كان إبراهيم بن أبي يحيى متروكا عند أهل الحديث، أما الشافعي فكان له فيه رأي آخر وكان يروي عنه، ولما كان فيه من الاعتزال ألصق البعض هذه التهمة بالشافعي. ويكفي في نفي هذه التهمة وردها: أن الشافعي رحمه الله كان من أكثر العلماء ذما لعلم الكلام، وكلامه في ذلك كثير، وقد شنع عليهم، حتى كان يقول: (حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، فينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام) (1). وكان يصرح بأنه يثبت أسماء الله تعالى وصفاته على ما قال الله تعالى، وعلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما عليه أصحاب محمد والتابعون لهم بإحسان. الأسباب التي دفعت الشافعي لوضع علم أصول الفقه: 1- بعد عصر الشافعي من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. 2- دخول الكلمات والأساليب الغريبة إلى اللغة العربية. 3- وجود الشافعي في عصر اشتد فيه الخلاف والجدل بين أصحاب مدرسة الحديث في المدينة النبوية، وأصحاب مدرسة الرأي في العراق، مما دفعه إلى أن يدون علم أصول الفقه، لكي يعرف المجتهد القواعد والموازين التي يجب عليه أن يلتزمها عند التعرض لاستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها. 4- كثرة الحوادث والوقائع التي جدت نتيجة اتساع الدولة الإسلامية، واختلاط العرب بغيرهم من الشعوب الأخرى، ذات العادات والأعراف المختلفة، وعدم وجود أحكام لكثير من هذه الحوادث والوقائع بخصوصها في القرآن أو السنة، فكان لابد من استعمال القياس بإلحاق الصور الجديدة التي حدثت في هذه المجتمعات، بصور وضح القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة أحكامها، لوجود العلة الجامعة بين الأصل والفرع؛ فدعت الحاجة إلى الكلام عن القياس بوصفه مصدرا من مصادر التشريع، للتعرف بواسطته إلى أحكام هذه الوقائع الجديدة (2). وكان أعظم عمل قام به الشافعي رحمه الله وخلد الله تعالى به ذكره هو «كتاب الرسالة» وهو كتاب مطبوع، وأفضل طبعاته ما كان بتحقيق الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر، وهو في مجلد ضخم. هذه الرسالة هي في أصول الفقه، وقد دون فيها القوانين التي تحكم الفقه أو الاستنباط، وهي عبارة عن أصول مسلمة بالجملة لا شبهة فيها، أو قواعد يتمكن بها الفقيه من الفهم والاستنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو علم منطق العرب في مقابل منطق اليونان الذي وضعه أرسطو، فكان الشافعي رحمه الله يشير إلى أن علم أصول الفقه هو منطق العرب، وكان يعتبر العرب أحد الناس عقولا وأكثرهم ذكاء؛ ومن قواعد هذه الأصول: * أنه ما من مسألة إلا والحكم فيها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((وكل شيء فصلناه تفصيلا)) [الإسراء:12]، فكل مسألة فلله فيها حكم، إما تحريم أو جواز أو إباحة، هذا من حيث الجملة. * أنه لا حكم إلا بدليل، فلا يحل لأحد أن يقول في شيء بحكم ما إلا بدليل: إما من القرآن، أو الحديث، أو الإجماع، أو القياس. هذه هي الأصول العامة. ثم شرع رحمه الله يفصل في هذه الأصول، ويبين الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد وغير ذلك، وبين أيضا الصحيح من الضعيف سواء في الحديث أو القياس، وقد قال رحمه الله بإبطال الاستحسان الذي كان يقول به الأحناف وغيرهم. وبهذا العمل الجليل الذي عمله الشافعي قدم خدمة عظيمة للتقريب بين المدارس الفقهية، ففي عصره كانت هناك مدرستان: مدرسة الرأي ويقصد بها أهل الكوفة. ومدرسة الحديث وكانت موجودة في الحجاز وغيرها. وكان بينهما فرق كبير ونوع من الخلاف والتباعد، فلما جاء الإمام الشافعي ووضع الرسالة قرب أهل الرأي إلى أهل الحديث، وقرب أهل الحديث إلى أهل الرأي، وبين الحديث الضعيف الذي لا يحل الاستدلال به، فنجا بذلك أهل الحديث من الاستدلال ببعض الأحاديث الضعيفة، كما نجا أهل الرأي من الاستدلال بالقياس الفاسد أو الباطل، وبذلك وضع أصولا لمدرسة وسطية ينتفع بها أهل الحديث كما ينتفع بها أهل الرأي، ولم يكن هذا غريبا على إمام درس في حداثة سنه على يد الإمام مالك رحمه الله، وهو من أئمة أهل الحديث، ودرس بعد ذلك على يد محمد بن الحسن، وهو من أئمة أهل الرأي. قال ابن حجر: «وانتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، فرحل إليه ولازمه، وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حمل جمل ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي، وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره حتى صار منه ما صار (3). ومن المعروف أن الإمام الشافعي رحمه الله كان له مذهب في العراق، فلما ذهب إلى مصر غير مذهبه، واستحدث أقوالا جديدة، وهذا أوجد للشافعي قولين: القديم والجديد (4). وأما أسباب تغير مذهبه فأمور: أولا: بسبب الاجتهاد؛ فإن العالم يظل مجتهدا إلى أن يموت، والاجتهاد من العبادة، قال تعالى: ((واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)) [الحجر:99]، فالاجتهاد من الثوابت التي لا تتغير، وإن كانت نتائج الاجتهاد من المتغيرات التي يجوز أن تختلف بين وقت وآخر. ثانيا: لأن الشافعي رحمه الله جالس العلماء المصريين، وأخذ عنهم وسمع حديثهم، وكان ممن أخذ عنهم الشافعي في مصر تلاميذ الليث بن سعد الذي كان في المدينة وزامل الإمام مالك، ووجد عندهم من حديث العلم وجديده ما أضافه إلى علمه القديم. ثالثا: أن الإمام الشافعي بصر في مصر بحالات جديدة من الأوضاع العملية والعلمية والاجتماعية ولدت عنده نوعا من الفهم الجديد، ولذلك تجد في كتبه التي كتبها بمصر ما ينم عن الأحوال والأمور التي كانت موجودة في مصر ولا يعلمها أهل العراق. رابعا: لأن الشافعي رحمه الله زاد عقله وتم نضجه ونمت تجربته بالسن وبمخالطة الناس ورجال العلم، ولذلك قال الإمام أحمد لمن سأله: (ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك أو التي عندهم بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك)(5). فلهذا ولما جبل عليه الشافعي رحمه الله من الصدق والإخلاص والنية الصالحة في طلب العلم وتعليمه، ولما كان عليه من حسن الأدب والتربية، ولما عنده من سعة العلم والفهم والاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، ولما أصله من القواعد التي احتاج إليها من بعده حتى ظل كتابه «الرسالة» إلى اليوم هو أفضل كتاب في أصول الفقه، وكأن هذا الكتاب ولد متكاملا أو على الأقل ترك بعد وفاة الشافعي مكتملًا لا يحتاج إلى مزيد.. لذلك كله كتب الله تعالى للإمام الشافعي القبول عند الناس، وصار أحد الأئمة المتبوعين. كان -رحمه الله- أبعد الناس عن التعصب والتقليد ، وأكثرهم حرصا على السنة والاتباع، ولهذا قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: (كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة.. تراني في بيعة.. تراني على وسطي زنار. أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: ما تقول أنت) (6). وصح عنه قوله: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) (7). وهذا منقول عن غيره من الأئمة. فالواجب على الطلبة والأتباع أن يستفيدوا منه وألا يتعصبوا له؛ فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر صلى الله عليه وسلم. الهوامش: (1) أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص78). (2) الشافعي فقيها ومجتهدا (ص/330). (3) توالي التأسيس (ص/73). (4) أنظر (الإمام الشافعي في مذهبه القديم والجديد) للدكتور أحمد نحرواي عبد السلام الإندونيسي، و(ضحى الإسلام) لأحمد أمين (1/231). (5) أنظر: حلية الأولياء (9/97)، تاريخ دمشق (51/366). ( 6) أنظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص399). (7) أنظر: طبقات الشافعية الكبرى (6/139)، سير أعلام النبلاء (10/53).