عاشت مناطق العالم الإسلامي المختلفة تعددية فقهية متنوعة مع سيادة مذاهب معينة على بعض المناطق وفي فترات مختلفة، وكانت المملكة من ضمن هذه المناطق التي شهدت تنوعات فقهية متعددة طوال تاريخها وفي مختلف مناطقها، واليوم مع رياح التغيرات المختلفة التي حملت تنوعًا في كل شيء حتى في الآراء الشرعية المختلفة يعود السؤال مجددًا؛ هل لا زالت هذه التعددية موجودة؟ خاصة بعد انتقادات عديدة أشارت إلى احتكار مذهب معين لأهم المؤسسات والمناشط الدينية المختلفة لا سيما في المساجد ومنابر الجمعة؟ (الرسالة) طرحت سؤال الاحتكار والتعددية على مجموعة من الشرعيين والمتخصصين في سياق الاستطلاع التالي: قال الأستاذ بكلية الشريعة جامعة الطائف د.جميل اللويحق في تعليقه على احتكار مذهب فقهي واحد لمنابر الجمعة وإمامة المساجد قال: "إن المذاهب الفقهية المختلفة حاضرة بقوة في التعليم الشرعي العام"، وأضاف اللويحق أن حضور المذهب الحنبلي اليوم لم يعد كما كان في السابق بل لا يكاد يكون في كثير من الأحيان ملزمًا للطالب أن يتعلم وفق مذهب واحد. وأشار اللويحق إلى أن الثقافة الشرعية السائدة في الفترة الأخيرة هي ثقافة الدليل في الفتوى والخطاب العام والناس لا يحتاجون أكثر من هذا الاتجاه؛ لذلك فمن تتبع فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء أو ما رجحته هيئة كبار العلماء في بعض المسائل سيجد أنها خرجت عن المذهب نظرًا لظهور الدليل في المسألة المبحوثة، وأضاف اللويحق أنه لم نسمع أن أحدًا ألزِم بألا يفتي إلا وفق المذهب الحنبلي، كما أنه يوجد لدينا في الاحساء ظهور للمذهب المالكي، وله رجاله من أهل العلم. ويعتقد اللويحق أن المجال مفتوح لكل المذاهب الفقهية وإن كان الميل الفقهي العام هو لاستحضار الدليل في المسألة دون السؤال عن انتماء هذه المسألة لمذهب من المذاهب. ويرى اللويحق أنه لا حاجة للتركيز على المذاهب كعناوين وإنما الحاجة إلى الفقه الشرعي المستند إلى الدليل، أما في التأهيل العلمي الخاص فيجب أن يعلم الطالب الفرق بين المذاهب، ومصادر كل مذهب، ويبدأ بالتعلم وفق إحداها كما هي عادة أهل العلم. وعن طغيان التدريس بالمذهب الحنبلي في الدورات العلمية الشرعية وفي دروس المساجد رد اللويحق أن ذلك باعتبار السائد والغالب على الناس لكن في الحقيقة لم يتقدم أحد بطلب تدريس كتاب في الفقه الشافعي أو الحنفي ورفض فيما أعلم، وربما لم يتقدم أحد بهذا لأن الغالب على الناس هنا هو الاعتناء بجملة من كتب الحنابلة المعروفة. وأكد اللويحق أن أكثر ما يحقق من كتب المذاهب الفقهية هو في الجامعات السعودية. تغير بسيط أما أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالاحساء الدكتور محمد العلي فألمح إلى أن السائد في الساحة الشرعية ما زال يغلب عليه المذهب الحنبلي، وأشار العلي إلى التغير البسيط نحو التعددية لكن الخطاب في المجمل يسوده المذهب الحنبلي. ودعا العلي إلى مزيد من إتاحة المجال للمذاهب الفقهية الأخرى خاصة في بعض المناطق، مؤكدًا تأثير ذلك من ناحية الإثراء الشرعي والفقهي. وعن تأثير التعددية الفقهية في وحدة الصف وجمع الناس على كلمة واحدة أوضح العلي أن المناطق ذات الطبيعة التعددية بالأساس لا يمكن أن تسبب لها تلك التعددية فرقة وتشرذمًا بينما يمكن أن توجد بعض المناطق التي يغلب عليها مذهب معين فحينها يمكن أن تسبب لهم التعددية شيئًا من الفرقة والتشرذم. وعن تجربة بعض المناطق في التعددية الفقهية عبر التاريخ، يقول العلي إن التجربة ما زالت موجودة وحية، وإن كانت ضعفت في الفترات الأخيرة إلا أنها بدأت تعود لحيويتها شيئًا فشيئًا، وأشار العلي إلى أن لتلك التجربة انعكاسًا إيجابيًا حيث أعطت مجالًا أوسع وأرحب للرؤى المذهبية المختلفة. كما أشار العلي إلى عزم الدولة على التوسع في الأخذ بالمذاهب الفقهية المختلفة خاصة من خلال هيئة كبار العلماء وإن كان هذا التوسع تدريجيًا. وحتى تكون هناك تعددية أشمل وأعم ألمح العلي إلى أهمية ألا تكون هناك حساسية لدى المؤسسات الدينية من المذاهب الفقهية الأخرى وأن تكون واسعة النظر في أدبيات الفقه المختلفة. كما شدد العلي على دور وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في تعيين أئمة وخطباء من مختلف المذاهب الفقهية خاصة في المناطق التي تقبل ذلك الاختلاف، وألا تغلب عليها النظرة المذهبية الضيقة والواحدة. ليس هناك احتكار أما الأستاذ مشارك للفقه وأصوله بجامعة الملك عبدالعزبز د.هاني عبدالشكور فأوضح أنه ليس من الخطأ أو النقص أن يكون هناك مذهب محدد للدولة؛ فالدولة العثمانية مثلًا كانت تعتمد المذهب الحنفي، وكون الدولة تتبنى مذهبًا في الإفتاء أو القضاء فهذا مما لا بأس به بشرط عدم التعصب والأخذ بالراجح والأقوى. كما أوضح عبدالشكور أنه ليس هناك فارق كبير بين المذاهب الفقهية السنية المعتمدة لا سيما وأنها لاقت قبولًا واسعًا في العالم الإسلامي، وكلهم ينحدرون من أصول واحدة وعقائد واحدة، وإن كانت هناك اختلافات فهي في بعض الفروع، وبالتالي لا ينبغي أن تثار مثل هذه الأمور حتى لا تكون سببًا للتفرقة بين المسلمين وإشغالهم بقضايا تعتبر من طبيعة الحياة ومن طبيعة الفقه الإسلامي الذي لا يمكن حصره وقصره على رأي واحد. ولا يرى عبدالشكور أن هناك احتكارًا للمنابر والمساجد من قبل مذهب معين؛ فهناك أئمة وخطباء من الشافعية والحنفية، وهناك تعدد في مناطق مختلفة من المملكة مثل مكة والمدينة والاحساء، وأضاف عبدالشكور أن لدى المشايخ المعروفين بهذه المذاهب كامل الحرية في التدريس والإفتاء، كما أن لهم طلاب علم وتلاميذ يتخرجون في نفس المدرسة. وأشار عبدالشكور إلى أن تبني المذهب الحنبلي من قبل الدولة يعد ضرورة بحيث يكون القضاء موحدًا ويحسم كثيرًا من مسائل الخلاف. كما أشار إلى أولوية أن تتاح للناس حرية التمذهب في قضاياهم الخاصة بشرط عدم التعصب للمذهب أو لشيخ من المشايخ. وأكد عبدالشكور أنه لا يوجد هناك احتكار من قبل المذهب الحنبلي في مختلف المناشط والمؤسسات الشرعية وإنما ما هو سائد ويدرس في كليات الشريعة هو المذهب الحنبلي كما يدرس في دول أخرى المذهب المعتمد لديها، وبطبيعة الحال من يتخرج في هذه الكليات يذهب ليدرس في المساجد وفي الدورات العلمية وغيرها، وليس معنى ذلك أن هناك احتكارًا أو إجبارًا للناس على التمذهب بمذهب معين. انتشار طبيعي من جانبه أكد أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الملك فيصل د.أحمد الحليبي أن هناك تعددية مذهبية واضحة في المملكة، وأن جميع المذاهب الفقهية موجودة سواء مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ودلل الحليبي على ذلك بما هو موجود في بعض المحافظات التي تضم كل المذاهب الفقهية الأربعة بمدارسها وعلمائها ومناهجها وحلقاتها العلمية المختلفة، كما أن تلك المدارس موجودة أيضًا في الحجاز وفي جيزان بل وحتى في منطقة نجد التي ساد فيها المذهب الحنبلي مؤخرًا هناك بعض المذاهب الفقهية الأخرى. وعن تحجيم هذه المذاهب لصالح مذهب معين أوضح الحليبي أنه مع انتشار التعليم تبنت الدولة مذهب الإمام أحمد والذي قام عليه منهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي كان حنبلي المذهب. وأشار الحليبي إلى أن منطقة نجد قبل ذلك كانت تنتشر فيها المذاهب الفقهية المختلفة كما هو واضح في كتاب "الفواكه العديدة" للشيخ أحمد بن منقور الذي أورد فيه الكثير من الفتاوى لعلماء المذاهب الفقهية المختلفة في المملكة مما يدل على أن المذاهب كانت منتشرة في نجد وفي غيرها في تلك الفترة، لكن ومع انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وقيام الدولة السعودية والتي قام من خلالها طلاب الشيخ محمد بن عبدالوهاب من القضاة بالانتشار في أنحاء المملكة تم تبني مذهب الإمام أحمد من قبل الدولة. وأوضح الحليبي كذلك دور المعاهد العلمية في السابق والتابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود في انتشار المذهب الحنبلي. لكن الحليبي أكد أن ذلك يعد أمرًا طبيعيًا جدًا حينما تتبنى الدولة مذهبًا معينًا فإنها تساهم في نشره، ونفى الحليبي أن يعني ذلك أن الدولة منعت المذاهب الأخرى، وإنما المذاهب الأخرى لا تزال موجودة وقائمة. وأوضح الحليبي أن نظام القضاء في السعودية منذ القدم لا يفرض على القاضي أن يقضي بمذهب الإمام أحمد وإنما يقضي بالراجح حسب ما يدل عليه الكتاب والسنة، وهذا يشير إلى إمكانية بقاء المذاهب الفقهية الأخرى. وعزا الحليبي بقاء واستمرار المذاهب الأخرى أو ضعفها وتلاشيها إلى نشاط أهل تلك المذاهب وحيويتهم ومدى سعيهم وجهدهم لتدريس تلك المذاهب؛ م وأكد الحليبي أن تعددية المذاهب الفقهية هو إثراء للساحة الشرعية وليست سببًا للفرقة والتشرذم كما يردد البعض، ولا يصح أن يحمل الناس على مذهب واحد؛ فتعدد المذاهب فيه سعة ورحمة للناس؛ لأن عامة الناس لا يلزمها أن تتبع مذهبًا معينًا وإنما تتبع حكم من يفتيها سواء كان حنبليًا أو حنفيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، وأوضح الحليبي أن ذلك يعطي سعة ويسرًا في تقديم الأحكام الشرعية للناس، وهذا ما كانت عليه الأمة الإسلامية في غالب فتراتها. دعوى لا دليل عليها فيما أكدت أستاذ التفسير والدراسات القرآنية بجامعة الملك فيصل بالأحساء أ.د. هدى بنت دليجان الدليجان أن المذاهب الفقهية تعد مدارس علمية لبيان الدليل والاستنباطات فيما يناسب كل زمان ومكان، وأنه قد اشتهرت المذاهب الفقهية الأربعة عن غيرها من المذاهب بسبب قوة الحجة التي تميزت بها، ونور الحق الذي اتسمت به، موضحة أن كل أصحاب المذاهب يرفعون راية "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وأضافت الدليجان أن هناك من اشتهر من العلماء كونهم تلاميذ هذه المدارس الفقهية بما حملوه من العلم والفقه والبيان لأصقاع الدنيا، وما نقل عنهم من العلوم والاستنباطات المناسبة للحكم التكليفي للمسلم فيما يحتاج إليه من أمور في العبادات والمعاملات والعقود والجنايات وغيرها. وأوضحت الدليجان أن الدولة السعودية قامت في الأصل على المذهب الحنبلي، لكن القائمين من أهل العلم وهيئة كبار العلماء يقومون بالبحث عن الدليل في بعض المسائل العلمية، أو في فقه النوازل الحادثة بما هيأ الله من أدوات الاجتهاد الفقهي. مؤكدة على بناء الملكات الفقهية لطلاب العلم المتمرسين على أيدي أولئك العلماء والفقهاء، نافية أن يكون المجتمع السعودي قد نبذ الخلاف الفقهي بل احترمه وعززه بدليل وجود المدارس الفقهية المتعددة في الحجاز والاحساء وغيرها. وأشارت الدليجان إلى أن دعوى الإقصاء دعوى لا دليل عليها، وإذا احتج بعض المدعين بالمناهج المدرسية والمقررات الجامعية، فهو دليل على احترام الاجتهاد ووضعه في مكانته اللائقة به، فهو ليس حمى مستباحًا، بل له من الأدوات اللازمة والعناية والرعاية، لذلك لا يدرس في التعليم العام لأنه يستحيل على طالب العلم المبتدئ التمرن على الاختلاف الفقهي لصعوبة دراسة المسائل في الفقه المقارن، مشددة على أن التقيد بمذهب واحد في المناهج الدراسية مما يسمح بتكوين أرضية فقهية صلبة لدى الطالب بدراسة المسائل الفقهية على المذهب الحنبلي بالأدلة الشرعية المستنبطة، ثم إذا استوى عوده فلا مانع من التوسع في الدراسة الفقهية المقارنة والاحتجاج بالدليل مع كمال أدوات الاجتهاد. مؤكدًا أن الخطب لا تكون بحسب المذاهب والأفكار المنحرفة الفوزان: المخالف في الفروع الفقهية له العمل باجتهاده في نفسه وحكم الحاكم يرفع الخلاف قال عضو اللجنة الدائمة للإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان: "إن الخطابة على المنابر يوم الجمعة والعيد تكون على المنهج الصحيح في تعليم المسلمين أمور عقيدتهم وأمور دينهم وتنبيههم على الأخطاء التي يقعون فيها أو يقع فيها بعضهم"، وأضاف الفوزان -في تعقيبه على ما نشرته بعض الصحف من مطالبة بتمكين خطباء المذاهب الفقهية المختلفة من صعود المنابر- أن الخطب لا بد وأن تتضمن وعظهم (المسلمين) وتذكيرهم ما ينفعهم، ونهيهم عما يضرهم في دينهم ودنياهم كما كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب خلفائه وأصحابه من بعده، وأكد الفوزان -بحسب موقعه على الانترنت- أن الخطب لا تكون بحسب المذاهب والأفكار المنحرفة التي تفرق المسلمين وتضلهم عن سواء السبيل. وأضاف الفوزان أنه لا يجوز الاختلاف في العقيدة لأنها توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها، والمخالف في العقيدة لا يكون مسلما حقيقيا يفسح له المجال في إبداء رأيه فيها في مجتمع مسلم متمسك بالعقيدة الصحيحة، أما المخالف في المسائل الفقهية الفرعية وهو من أهل الاجتهاد إذا كان لاجتهاده محمل في الأدلة الصحيحة فله وجهة نظره من الناحية النظرية وله العمل باجتهاده في نفسه، وأشار الفوزان إلى أن "الناحية العلمية التي يسير عليها المجتمع فالمرجع في هذا إلى حكم الحاكم المسلم، وحكم الحاكم يرفع الخلاف كما هي القاعدة المعروفة، ولا يترك الناس فوضى كل يأخذ برأيه واجتهاده أو اجتهاد غيره وعلى هذا كان عمل المسلمين".