وهو عالم بل إمام مجتهد، اشتهر بأنه صاحب أبي حنيفة؛ لأنه تتلمذ على يديه، ولازم حلقته سبع عشرة سنة، حتى عرف به. وأبو يوسف وإن كان منسوباً إلى الحنفية، وتعدّه كتب التراجم في الطبقة الأولى من طبقات الحنفية، إلا أنه في الحقيقة مجتهد مطلق قادر على الاستنباط المستقل كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولذلك ذكر ابن عابدين أن أبا يوسف خالف أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وغيره يذكر أن خلاف أبي يوسف لأبي حنيفة يقارب خلاف الشافعي لمالك. هذا وأبو حنيفة هو مثل الأب لأبي يوسف فقد تعهده منذ صغره بالتربية والنفقة فقد كان أبوه فقيراً، ومع ذلك ربّي أبو حنيفة في تلميذه أبي يوسف الاستقلال في النظر والتفكير، وذلك نتيجة طريقة أبي حنيفة في التدريس، فهو يعتمد النقاش والحوار والجدال مع تلاميذه حول ما يعرض عليهم من مسائل حتى يعلو ضجيجهم، ولذلك صار هؤلاء التلاميذ من بعده فقهاء أئمة. وَلِيَ أبو يوسف القضاء لثلاثة خلفاء هم: المهدي والهادي والرشيد، ومات في خلافة الرشيد وهو على القضاء، وقد كان الرشيد يجلُّه كثيراً، وهو أول من لقب ب: "قاضي القضاة" وكان يقال له أيضاً: قاضي قضاة الدنيا؛ لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم، بمعنى أنه كان المسؤول عن تعيينات القضاة. وهنا أمر يستدعي التوقف: فقد ذكر مؤرخو نشأة المذاهب الفقهية وانتشارها أن أبا يوسف الذي كان مسؤولا عن تعيين القضاة، كان لا يعين قاضياً إلا من أتباع مذهب أبي حنيفة! فهل كان ذلك تعصباً لمذهبه؟ يبعد جداً ذلك، بل أجزم بنفيه، وهو الورع التقي، والمجتهد أيضاً، وهو نفسُه خالف إمامه في مسائل كثيرة. إذن: لماذا هذا التركيز على أخذ القضاة من الأحناف ؟ يقول مصطفى الزرقا عن ذلك: إن عمله هذا يدل على بصيرة نافذة، وإدراك عميق لمصلحة القضاء والمتقاضين، لأنه كان الطريق الوحيد لتوحيد الحكم القضائي الواجب عندما لا يكون الفقه مقنناً. إذن: أبو يوسف اتجه إلى حل عملي لمعالجة اختلاف القضاة في الأحكام في حين ليس لديه مدونة قضائية يستطيع أن يلزم القضاة بها. والعجيب أن اختلاف القضاة في الأحكام التي هي محل اجتهاد كانت مشكلة قديمة، وقد وردت في رسالة كتبها عبد الله بن المقفع سماها: " رسالة الصحابة " ورفعها إلى الخليفة المنصور، والشاهد منها لما قال: إنه في البصرة يقضى بحل الأنكحة والأموال في حادثة، ويقضى في الكوفة بحرمتها؛ لاختلاف اجتهاد القضاة. وأشار عليه بأن يوحّد ما يقضى به بين الناس، وذلك بأن يأمر بجمع تلك الأقضية وآراء الفقهاء المتعارضة في مجموعة، وترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم ينظر فيها ويختار الأصوب، وينهى عن القضاء بخلافه. بقي أن يقال عن أبي يوسف والقضاء: إن الفتوى عند الحنفية في باب القضاء على ما يراه أبو يوسف ولو خالف أبا حنيفة، ويذكر ابن عابدين الحنفي: أن السبب أن أبا يوسف جرَّب القضاء وأبو حنيفة لم يجربه، ويدلِّلون على أن للتجربة أثراً في الترجيح الفقهي: أن أبا حنيفة كان يفتي أن الصدقة أفضل من حج التطوع، فلما حج وأدرك مشقة الحج أفتى بأن حج التطوع أفضل من الصدقة.