تعد جائحة كورونا من أشد الأزمات الصحية فتكاً بالبشرية في التاريخ المعاصر، والمعركة الكبرى التي لم ينتصر فيها العالم بعد على كورونا الذي عصف بحياة الملايين من الناس ودفع العالم إلى الدخول في حجر منزلي واسع النطاق شمل كل أصقاع المعمورة ولم يشهد له التاريخ مثيلا من قبل، حتى أن المجتمع الدولي لم يستطع حتى الآن التوصل إلى لقاح يتيح له وقف انتشار هذا الفيروس، ويخلق نهاية سعيدة للعالم من أجل الفوز بالنصر النهائي في هذه الحرب العالمية ضد الوباء قبل أن تحل كارثة بشرية بحق العالم، لاسيما في ظل تزايد عدد الإصابات التي تعدّت حاجز المليوني إصابة مؤكدة حتى لحظة كتابة هذا المقال، وتجاوز عدد الوفيات 128 ألفا. في هذا الوقت العصيب، يحتفي العالم بيوم التراث العالمي الذي يصادف يوم ال18 من أبريل أو ما يسمى بيوم المعالم والمواقع الأثرية، والذي وافقت عليه الجمعية العامة لليونسكو بموجب اقتراح تقدم به المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية الإيكوموس في العام 1983م. ولأول مرة منذ اعتماده يتم الاحتفاء به من دون أي فعاليات كانت تقيمها الحكومات الوطنية؛ بهدف الدعوة لحماية التراث الإنساني والتعريف به وبجهود الجهات والمنظمات ذات العلاقة في الحفاظ على التراث وتأكيد قيمته الحضارية والاقتصادية للمجتمعات. لقد تأثرت المواقع التراثية سلباً إلى حدٍّ كبيرٍ بانتشار فيروس كورونا الجديد، نتيجة المخاوف التي ألحقتها هذه الجائحة بقطاع السياحة والقطاعات ذات العلاقة بالتراث، والعزلة الاجتماعية التي فرضتها الأزمة، ضمن الإجراءات الوقائية لمواجهته، وهو ما دفع إلى إغلاق 89 % من مواقع التراث العالمي بشكل كامل أو جزئي أمام الزوار، حيث أوضحت الخارطة العالمية التي أعدّتها منظمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي المغلقة بسبب كورونا أنّ 119 بلداً من أصل 167 دولة طرفاً لديها ممتلكات من التراث الثقافي (ما يعادل 71 %) أغلقت مواقعها بالكامل، في حين بقيت المواقع مفتوحة في 17 بلداً (ما يعادل 10 %)، وأغلقت 31 بلداً (ما يعادل 19 %) مواقعها جزئياً، ومن بينها تلك البلدان التي تعيد افتتاح مواقعها ببطء بعد التعافي من الأزمة. كما تم إيقاف ممارسات التراث الثقافي غير المادي ومن ضمنها الطقوس والاحتفالات، التي أثرت على المجتمعات المحلية في شتى أنحاء العالم، فيما تسجل المتاحف والصروح الثقافية يومياً خسائر بالملايين، وهي الخسائر نفسها التي مُنيت بها العديد من الأعمال التراثية على الصعيد العالمي. إن التُّرَاث - على تنوع عناصره واختلاف أشكاله - ثروة حضاريّة لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن تعوض، وذلك أنّه يُمثِّل قيم شعوبه، وأفكارها، ومعتقداتها، وعاداتها، وتقاليدها، ولأن التُّرَاث يمثل هوية الأمة، كان لا بد من التمسك بأصالته والمحافظة عليه، فهو التاريخ المادي، والمرآة الحقيقية لأي حضارة. وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية والعصيبة، فقد أطلقت اليونسكو حملة عالمية على منصات التواصل الاجتماعي تحت عنوان (مشاركة تراثنا)، بغية تعزيز الانتفاع بالثقافة والتثقيف في مجال التراث الثقافي في أثناء هذا الحجر الصحي، إضافة إلى إطلاقها لمعرض افتراضي يتضمن عشرات الممتلكات التراثية من مختلف أصقاع المعمورة، بدعم تقني من جوجل للفنون والثقافة. ومن أجل التصدي للتحدي العالمي الذي يواجهه التراث حالياً، تضمنت مبادرة منظمة اليونسكو أيضاً دعم المبتكرين وعلماء البيانات والمبرمجين حول العالم لإيجاد حلول رقمية لمواجهة الأزمة، كما دعت إلى مشاركة المسؤولين عن مواقع التراث العالمي إلى نشر تقارير عن حجم تأثير الإغلاق على المواقع التراثية في المجتمعات المحلية ببلدانهم. إن عملية تعافي قطاع التراث مثله مثل بقية القطاعات الأخرى التي تحتاج وقتا عقب الأزمات، لكن التراث سيظل وسيلة ضرورية للشعوب في بقائها واستمرارها وحفظ ذاكرتها؛ لتستمد منه سبل انتصارها على هذا الوباء.. ودمتم سالمين.