انعكست الأحداث التي تشهدها سورية سلباً على التراث الثقافي السوري، وأوجدت حالة من الفراغ الأمني الذي استغلته بعض الأيادي غير الأمينة في محاولة للسطو على تراث وحضارة بلد تمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة، بعد أن تحولت كنوزها التاريخية، مثل سوق حلب الذي يعود إلى ألف عام، وقلعة الحصن، إلى ميادين حرب، على يد القوات الحكومية والثوار. واستناداً إلى تقارير أعدها بعض الناشطين في المناطق المحررة، يتبين مدى الخسائر التي أصابت هذه الآثار على يد عصابات التنقيب والتهريب. ففي محافظة حماة تمت سرقة قطعتين أثريتين هما تمثال برونزي مطلي بالذهب يعود للفترة الآرامية من متحف حماة وقطعة حجرية رخامية من متحف أفاميا، في حين تعرض متحف دير الزور لخسائر مادية، كما فُقدت مؤخراً لوحتا فسيفساء حديثتا الاكتشاف في موقع تل النبي هوري بالقرب من حلب، ولم يتوصل التحقيق إلى"مكان فقدهما". وشهد موقع دورا أوروبوس بدير الزور، أعمال تنقيب سرية وسُرقت موجودات متحف دورا أوروبوس وهي نسخ وليست قطع أصلية، وسرقة تجهيزات مادية تعود للبعثة العاملة في الموقع. ما قام به لصوص الآثار في موقع إيبلا في محافظة إدلب شمال سورية يحدثنا عنه الناشط علي سعد فيقول:"الأضرار بجزئها الأكبر ذات منشأ طبيعي، إذ أدت الأحوال الجوية خلال موسمي الشتاء إلى تخريب بعض الجدران وتهدمها، وهي كانت تحظى بترميم وتجديد سنوي من قبل البعثة الأثرية العاملة في الموقع، وبغياب البعثة تعرضت هذه الجدران لأضرار يمكن تعويضها لاحقاً بالترميم وإعادة التأهيل". تخريب وسرقة ويضيف:"تعرض الموقع لأضرار ذات منشأ بشري، ركز العابثون فيها على قطاعات محددة، حيث انتشرت حفر عشوائية في بعض ساحات القصر الملكي، وحاول اللصوص الدخول عبر أوكار حفروها تحت بعض الجدران بهدف الوصول إلى سويات أقدم غير منقبة سابقاً، إضافة إلى تخريب جزئي للدرج البازلتي الواقع في الجناح الإداري للقصر بغية اختراق الطبقات، وهناك عدة آبار تم تفتيشها مجدداً على رغم أنها منقبة سابقاً من قبل البعثة العاملة في الموقع، كما حدث تخريب لسويات أثرية. كما تعرّض معبد عشتار الكبير إلى حفريات قليلة في بعض القاعات، أما في موقع البارة بالقرب من معرة النعمان فشرح الناشط سامر الإدلبي عنه قائلاً:"في البارة التي تقع غرب مدينة المعرة بحدود 15 كيلومتراً، كُسرت ثلاثة توابيت حجرية داخل المدفن الهرمي المعروف ب المذوقة، وكُسر ساكف بوابة، وخُلع باب معصرة الزيتون، وسُرقت أربعة تيجان أثرية، ويسكن الأهالي المهجرين في حوالى 15 مغارة ويستصلحون بعض المغارات والمدافن البيزنطية. وشُوهت بعض الواجهات في الموقع بسبب الاشتباكات هي واجهة قلعة أبوسفيان، وواجهات المدفن الهرمي الصومعة المنحوتة بالصخر، والواجهة الشرقية لإحدى الكنائس الخمس، وواجهة المدفن الهرمي المذوقة من جهة الشمال والشرق، والواجهة الشرقية لدير الرهبان". هذا فضلاً عن عمليات التزييف التي طاولت كثيراً من الكنوز الثمينة، فحركة تزييف الآثار نشطت مجدداً وبشكل كبير، إذ يعمد لصوص الآثار إلى تزييف قطع ومحاولة تسويقها وبيعها على أنها قطع أصلية وأثرية، بخاصة لوحات الفسيفساء والتماثيل التدمرية. اجراءات حماية ومن هنا برزت دعوات عالمية لوقف نزيف الآثار السوري من خلال وضع إستراتيجية حماية بالتعاون مع مديرية الآثار والمتاحف السورية حيث وضعت معظم القطع الأثرية في أماكن آمنة، وتم تركيب أجهزة إنذار في بعض المتاحف والقلاع، وزيادة عدد الحراس وتكثيف دوريات المناوبة. كذلك تبليغ الإنتربول عما فُقد أو عن كل ما انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي من مقاطع فيديو وصور يُعتقد أنها للقى أثرية سورية غير مكتشفة وغير مسجلة، ربما وصل إليها لصوص الآثار عبر التنقيب غير المشروع في المواقع البعيدة. وقد نظمت منظمة"الإيكوموس"ورشة عمل عبر الإنترنت بهدف تعزيز مهارات الكوادر الوطنية السورية على"أساليب وتقنيات حماية التراث الثقافي في حالات الخطر"بمشاركة خبراء دوليين من منظمتي"الإيكوموس"و"الإيكروم". وعن دور الجيش الحر في المناطق المحررة في حماية هذه الآثار ومنع العبث بها قال محمد وهو قائد أحدى الكتائب المسلحة:"بعض قادة الجيش الحر أنشأوا"فرق استطلاع"للتنقيب عن الآثار وباتوا يستوردون أجهزة التنقيب إلى جانب الأسلحة، ويؤكدون أن نهب الآثار جزء من حقوقهم!. فبعض المسلحين يقومون بعملية نهب منظمة لآثار وتحف سورية وتهريبها إلى الخارج، لا سيما عبر تركيا، وإلى جانب الذخائر والأدوية التي ينقلونها يومياً عبر الحدود مع تركيا إلى سورية. ويقول أبو محمد حمد، وهو قيادي في الجيش الحر يقيم في منزل آمن في مدينة أنطاكية وأشرف على التنقيب في القبور الرومانية قرب إدلب:"لقد تركنا العالم الخارجي في مواجهة جيش بأكمله من دون أسلحة ومن دون أموال ومساعدة، لهذا فإن الآثار هي جزء من حقنا في استخدام أية موارد يمكن أن نعثر عليها لمواجهة هذا الطاغية"!!، كذلك قامت بعض كتائب الجيش الحر بالسيطرة على دار الضيافة في موقع قصر الحير الشرقي الأثري في مدينة تدمر التابعة لمحافظة حمص وسط سورية، ولا توجد حتى الآن أية معلومات مفصلة عن حال الدار بعد الحادثة. ويقع قصر الحير الشرقي الأثري في البادية السورية بالقرب من مدينة السخنة، ويعود تاريخه إلى العصر الأموي حيث بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 110 هجري، ويقع القصر ضمن نطاق مدينة أثرية كاملة كانت منتجعاً للخليفة في العصر الأموي. وكذلك قامت إحدى كتائب الجيش الحر بدخول إلى متحف التقاليد الشعبية في حلب شمال سورية بعد تفجير قفل باب المتحف. مخاوف دولية ومنذ بداية الثورة في سورية أعرب المجتمع الدولي عن مخاوفه بشأن الخطر الذي قد تواجهه المعالم التراثية المتنوعة والمواقع الأثرية في البلاد فدعت آنا بيلوني، مديرة مكتب"يونيسكو"مع اقتراب انعطافة الحرب نحو عامها الثالث، الناشطين للحفاظ على مواقع سورية التاريخية، وقالت إن هذه المواقع تواجه تهديداً جدياً وأكثر خطورة يتمثل بوجود شبكة متطورة من مهربي الآثار وتجارها، على رأسهم أعضاء في المجموعات المسلحة التي تعاني ضائقة مالية، يسعون للاستفادة من الثروات الثقافية للبلاد". وأضافت بيلوني:"في ضوء التجارب السابقة من حالات النزاع، وفي ما يتعلق بالتراث الثقافي، فإن مخاطر نهب الممتلكات الثقافية السورية والاتجار غير المشروع بها تبدو مرتفعة". وفي محاولة منها للحد من عمليات النهب والسرقة استضافت اليونيسكو حلقة عمل إقليمية في عمان عن"حماية التراث الثقافي السوري من الاتجار عرضت فيه تقارير متضاربة حول مصير القطع الأثرية المسروقة من سورية. وأوضحت انه جرى نهب 12 متحفاً من أصل 36، إضافة للكثير من المواقع الأثرية في البلاد التي خضعت لعمليات تخريب وحفريات غير قانونية". وتابعت:"تشكل أسواق حلب جزءاً نابضاً من الحياة الاقتصادية والاجتماعية لسورية، منذ تاريخ إنشاء المدينة، وهي تشهد على أهمية حلب بوصفها ملتقى طرق للثقافات منذ الألفية الثانية قبل الميلاد". فوضى وبناء عشوائي وعن دور المجتمع المحلي في صون التراث السوري قال الناشط محمد بطل:"بعكس ممارسات التنقيب السري والتخريب والنهب، التي تلقى مقاومة عالية ويتصدى لها سكان المناطق المحيطة بالمواقع الأثرية، لا يبدي المجتمع المحلي نفس القدر من التعاون في ما يتعلق بالتعديات العمرانية الحديثة التي انتشرت على نطاق واسع، إذ يستغل بعض الناس حالة الفوضى وصعوبة ضبط المخالفات في التعدي بالبناء العشوائي على المواقع الأثرية ومناطق الحماية". وفي ظل هذا القلق والخوف العالمي يبدو دور الحكومة السورية في هذا المجال مقتصراً على أصدار القرارات والتعميمات، وما يسترعي الانتباه والدهشة تعميم صادر عن المديرية العامة للآثار والمتاحف وقد سطر بناء على كتاب وزارة الداخلية، وفي التعميم تطلب مديرية الآثار من متاحفها ودوائرها في المحافظات موافاتها بكامل المعلومات المتوافرة عن الآثار بالسرعة القصوى لتتمكن من"مخاطبة الجهات الأمنية المختصة"! ويرى ناشطون أن هذا التعميم مضحكٌ ويتساءلون كيف تجهل مديرية الآثار ما لديها وما ليس لديها من أثار ولوحات فسيفسائية في متاحفها ومواقعها الأثرية، خصوصاً متحف السويداء ? كما ورد في تعميمها؟!. وإذا كانت ثمة لوحات مسروقة من متاحف المديرية أو من مواقعها الأثرية، فمن يجب أن يبلّغ من؟ أمديرية الآثار أم وزارة الداخلية؟ وحين تطلب مديرية الآثار من دوائرها تقديم المعلومات المتوافرة عن اللوحات المسروقة والمرفقة صورها في التعميم فماذا يعني ذلك؟ وأين الأرشيف الإلكتروني الذي وعدوا به... بل أين الأرشيف الورقي؟ يُضاف هذا التعميم إلى غيره من التعميمات لمخاطبة"أهل الخير"لمساعدة مديرية الآثار في العثور على مفقوداتها!.