لا نزال لا نكاد نصدق، حين توقف العالم عن الركض، تشعر بعجلة داخلك لا تكف تدور وتتضخم، تتوق لتسجيل يوميات الحَجْر، لكن ما الذي يمكن رصده في بيت بأربعة جدران وباب موصد بوجه الكورونا أغلب الأحيان، حتى رسائلك تحجم عن تلقيها، تطلب من حارسة المبنى الاحتفاظ بها حرصاً على تجنب تسلل كورونا طائشة في أحد تلك المظاريف البريئة التي غالباً ما ستكون من مدير إدارة المبنى يطالب بدفعة الربيع من تكاليف الصيانة الموسمية، تطلب منها أن تبقي الكورونات على طاولة بجوار باب حجرتها الصغيرة، ترمقك الحارسة بعين شاخصة بلا مشاعر، هي نفس العين التي دمعت يوم استوقفتها في الأسبوع الأول من الحصار لتسألها إن كانت بحاجة لشيء، وتؤكد عليها بألا تتردد في طرق بابك لو حل بها وجع، نفس الذراع التي كادت تحتضنك يوم منحتها حفنة القفازات الحامية لكيلا تضطر للمس الكورونات المتخفية في قبضات الأبواب وأحواض النبات وأكياس التسوق وأعواد المكانس وسلات الزبالة التي تخرجها كل صباح لعمال التفريغ، قفازات هي أعجز ما تكون بوجه الكورونا إن حام بها القضاء. ما هكذا تكون اليوميات حافلة بمثل تلك العادية اليومية الممكن ضمها لخانة التفاهات. ترجع بالتاريخ لبداية هذا الشبح المسمى كورونا، هذا العام 2020 الذي حل بهزة أرضية كورونية بحجم كوكب الأرض، منتصف يناير لمنتصف فبراير، حين توافدت النصائح من الأخوة: "التوقعات تذهب لأن الكورونا ستجتاح كالحمى الأسبانية، وستشح الأرزاق، بادروا بتكوين خزين من المؤن تحسباً لما سيجيء." تحذير مثل حبر باهت لا يترك في نفوسنا من أثر، في ترحالنا كمن لا يعنينا هذا التحذير، لكن وإرضاء للناصحين قمت ورفيقتي ببعض التسوق، والتقطنا صورة لعلب التونة الثلاث برف مطبخنا مع كيس الأرز الصغير والشابورة الهزيلة، وبعثناها للأهل، وتوالت التعليقات: "هذا لا شيء، تحتاجون أضعافا أضعافه." وبالطبع لم يستقر برؤوسنا التحذير. عجيب هو الإنسان، حين يتأمل الكوارث عن بعد، يرى لانهيار المنازل والدول وأكداس الجثث وجحافل المشردين والنافقين بالأوبئة بتعاطف وإنما ومع الوقت والركض اليومي يصير يتأمل في كل الجوائح كمن يشاهد فيلماً سينمائياً على شاشة تليفزيونه. كنا أبعد ما نكون عن تصديق خطورة واكتساح موجة الكورونا حتى حل الحَجْر الصحي، وانبعثت من لا مكان الطوابير اللانهائية أمام محلات التسوق، الدخول بعدد محدود، لتظل تنتظر خروج متسوق ليسمح لك بمكانه، مما يضعك في انتظار لا نهائي ضمن طابور يبدأ من حافة شارع السان جيرمان نزولاً لغاية نهر السين. تنصت لهذا الفيلسوف يحذر من الجوع، "بين التحضر والبربرية خمس وجبات." بمعنى أن قناع التهذيب البشري غالباً ما يسقطه الجوع، حين تخلو ليس فقط معدتك بل معدة صغارك وأحبتك بغياب الوجبة تلو الوجبة يجيء الاختبار، "هل ستخطف اللقمة من جارك؟ هل ستقتحم لمتجر مغلق أبوابه بوجهك؟ هل وهل بلا آخر تواجهك أمام احتمال انهيار شبكة توريد الأغذية. تخيل حيك بل ومدينتك بلا محلات بيع أغذية. فقط لا غير.