بعد ديباجة من المجاملة المجانية، تتكرر مع كل المتقاعدين، تم استدعاؤه لتكريمه، قام على مضض، سار إلى حيث المنصة، تسلم ورقة لم تعد تعنيه، مكث في الحفل بضع دقائق قبل أن يغادر، وزّع ابتسامات المجاملة، ثم رحل بشعور مختلط بين الحزن واليأس، هو شعور اليوم الأخير، شعور يشبه إحساس من يستمع ويتفاعل مع أغنية "وداعية" للفنان عبدالكريم عبدالقادر. عادت به الذاكرة إلى يوم تعيينه، لم يكرمه أحد حينها، بل لم يعرفه أحد، ولكن روحه المتوثبة كانت تكفي سكّان عاصمة مليئة بالبشر.. استعرض أيامه (بينه وبين نفسه)؛ عندما تمّت الموافقة على إكمال دراسته، عندما ترأس تلك الدائرة، عندما خدم الكثير، عندما عمل بكل إخلاص، عندما أصبح قادرًا على معالجة كثير من المشكلات، عندما ارتفعت قدراته على التعامل مع ذوي الطباع الصعبة، عندما خذله بعضهم، ولم يجد منهم غير الجحود والنكران، ثم عندما بدأت أسئلة من حوله تتكرر: متى تتقاعد؟!. ها هو يتقاعد اليوم ويترك لهم المكان الذي حرص عليه كحرصه على منزله، حافظ على مبانيه وأثاثه وأدواته، حفظ آلياته واستوعب أنظمته، وشارك في بناء قواعده. عاد إلى منزله، لا أحد يشعر به، أبناؤه مشغولون بذواتهم بأصدقائهم، بدراستهم، بمستقبلهم. هو الوحيد الذي بدون مستقبل، وكأن الحياة تجاوزته. وهكذا أمضى الأيام التالية في سرحان مستمر، يفكّر تارة في الماضي وأخرى في المستقبل، يجلس أمام التلفاز يغيّر القنوات كيفما اتفق، دون أن يعي ماذا تقول وعن أي برنامج تتحدث. يعود يتصفح شبكات التواصل الاجتماعي يستعرضها بسرعة يطوّح بالجوال جانبًا، يأخذ نفسًا عميقًا، لا شيء يبهج.! اضطرب نومه، ينام قليلاً في الليل ثم يستيقظ، يعاود النوم في النهار، ينام ساعات طويلة لا يشعر بالشبع. مع مرور الأيام ترهل جسمه، ازداد وزنه، أصبح ملولاً وتزوره حالات الصداع، لا شيء يطيب حتى الأكل يتجرعه على مضض. أحيانًا تصل إليه إرشادات وأفلام قصيرة عن أهمية المشي، يمشي ثم يتوقف، تتكرر الرسائل يعاود المشي مرة أخرى يشعر بتحسن طفيف، وكما كل مرة يعود ويتوقف. أحيانًا يحاول يوقف سيارته في مكان بعيد عن هدفه ليتسنى له المشي، أو يتعمد استخدام الدرج بدلاً من المصعد في هبوطه وصعوده. أكثر ما يؤلم نفسه، الذين يتصل عليهم ولا يجيبون، وهم من كانوا - فيما يظهر - يجلّونه ويلتقونه بكل حفاوة، يتذكرهم ويتساءل: لماذا تتلوّن النفوس؟ عندما احتاج وظيفة لابنته، اتصل على أصدقائه أو من يعتقد أنهم أصدقاؤه، اتصل على من سبق وقدّم لهم خدماته، مع الأسف أغلبهم لا يجيبون. تلك الممارسات تتسبب في تعكير مزاجه، وينعكس ذلك سلبًا على أسرته. ولكن حينما يشعر بالاكتئاب، يحاول أن يغيّر من طقوسه، يخرج إلى المقهى القريب، يجلس وحيدًا، يتأمل البشر ويحاول أن يصغي إلى ما يقولون، هي اللحظات الوحيدة التي يجد فيها متعته وينسى آلامه. ملاحظة الناس وسلوكياتهم وردود أفعالهم تمثل متعة له، خاصة الحديث مع الغرباء. مرّة كان جالسًا في الطاولة المجاورة لمجموعة من المصريين وفي أثناء حديثهم معًا سمع أحدهم يردد: (اللي تغلبه العبه). عبارة دائمًا يسمعها دون أن تمثل له شيئًا، ولكنه توقف عندها هذه المرّة، تأملها، بدأ يطبقها على نفسه ويتساءل: ما الذي يجيد عمله رجل متقاعد؟ لم يستغرق وقتًا طويلاً، قفز إلى ذهنه أنه كان أحيانًا يقول الشعر للمحيطين به، وكانوا يصفقون له ويمتدحون موهبته. مباشرة بدأ في تجميع ما تبقى من تلك الورقات وأضاف إليها قصائد جديدة، ثم وجد دور نشر تطبعها له، وفي معرض الكتاب أحضرت منها ثلاثين نسخة. أبهجته تلك اللحظات، أخذ يقلب في مجموعته تلك، يلتقط لها الصور من الأمام والخلف، يرسلها لأسرته، ولكن الذي أحبطه أنه في اليوم المحدد لتوقيعه لم يحضر أحد، شعر بألم يحاول يهرب منه إليه عندما استمر يوميًا يجوب ممرات المعرض يمر بجوار تلك الدار يسألهم، يجيبونه: (الثلاثين كما هي)، يتذمر ويرحل.. اليوم قبل الأخير من المعرض رآها وكأن ارتفاعها قد انخفض قليلاً، سأل البائع الذي كان مشغولاً بعملاء آخرين، لم يستطع الصبر، أخذ النسخ وبدأ في عدها وجدها نقصت واحدة، بصيص من فرحة شعر بها، وعندما سأل البائع.. نظر إليها ثم نظر إلى الأسفل، التقطها وأجابه: (اهيه) أخذها ووضعها على بقية النسخ، ثلاثين نسخة كما هي. حالة من اليأس أصيب بها، تبعتها بعد فترة قصيرة حالة اللامبالاة، ثم أصبح يردد نكتًا سخيفة، وأحيانًا يضحك بلا سبب حتى عندما ماتت زوجته بعد حين، لم يكن يبدو عليه أنه حزين رغم ما كان يحمله من ود لها. لاحظه أبناؤه وكأنه يبتسم أثناء استقباله للمعزين، بل إن إحدى بناته في وقت متأخر من الليل أثناء أيام العزاء، سمعت موسيقى في غرفته، اقتربت من الباب، فإذا المغني يردد وصلته، (لحظة يا بقايا الليل لحظة.. لحظة ما بقى بالحيل لحظة..). عادت إلى غرفتها وأكملت ما كانت قد بدأته من نحيب.