السيدة ريموندا الطويل تروي، في مذكراتها "طفل الخميس"، قصة اعتقالها بتهمة الانتماء الى منظمة التحرير في العام 1978 عندما دهم الجنود الاسرائيليون منزلها في رام الله واقتادوها من زوجها وأطفالها الخمسة بعدما تنصت جهاز "شين بيت" على مكالماتها الهاتفية مع ممثل المنظمة في روما. وتتحدث عن فترة اعتقالها في سجن المسكوبية في القدس وعن حال السجينات فيه، وكيف ضربها سجّان اسرائيلي، وعن ساعات التحقيق الطويلة معها، قبل الافراج عنها: استغرقنا ليل آذار مارس البارد، وهو سمة ملازمة لرام الله. نفذ الى عظامنا، وجمّد الجدران، وخدّر باطن أقدامنا. كانت احدى تلك الليالي الباردة، امتد رداء من الصمت على المدينة الهاجعة، ليغلف أصوات الطيور والعصافير. ويفرض حظر تجوال طبيعياً، يضاف الى الحظر الذي يفرضه الاحتلال الاسرائيلي. كنت دوماً أشعر بسعادة حقيقية خلال هذا الشهر قبل أن يحل الربيع ليعلن مقدم الصيف بحره اللافح. غير أن آخر أيام آذار 1978 كان أشد ضيقاً عليّ مما تعودته. كانت الساعة تشير الى الأولى صباحاً، ابتسمت في سعادة عندما رفعت سماعة الهاتف لاتصل برقم في روما. وكان صوت عودة قرص الهاتف أثناء ادارته، ذلك الصوت المنتظم، حمل شعوراً بشيء من الخطر الذي لم يتسن لي أن أتبينه تماماً الا متأخراً جداً. كان شعوري مثل الطفلة التي تهم للمرة الأولى في حياتها بسرقة قطعة حلوى. رفع شخص على الطرف الآخر سماعة الهاتف: - مرحباً. هل أنت نمر حماد؟ وساد صمت طويل قبل أن يقول المتحدث: - من السائل؟ - ريموندا. يجب أن أتحدث اليه. صمت. وأضافت في لهفة، بعدما بدأ الارتباك ينشأ في ذهني: - في ما يتعلق بمحاكمة المتظاهرين في بيرزيت اليوم، يجب أن يتصل ب "انتر برس" بأسرع وقت ممكن. انهم لم يحاكموا سمعان خوري أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي تعرض لضرب مبرح. وفجأة أتاني الصوت عبر خط الهاتف: - مرحباً ريموندا. أنا نمر. أنا آسف لكنك لا تحترسين مطلقاً كما ينبغي. لقد قطعت علينا الخطوط مراراً، وبدأت أعتقد بأن بعض تلك المكالمات خدعة. وشيئاً فشيئاً بدأ الصوت يعود الى نبرته الودية التي اعتدت عليها ابان الأسابيع التي أمضيتها في روما. كان حماد ممثلاً لمنظمة التحرير في ايطاليا، وكنت احضرت اليه وثائق ثمينة من الأراضي المحتلة: شهادات أدلى بها تحت اليمين معتقلون سياسيون، حكايات دقيقة التفاصيل عن عمليات تعذيب، وابتهالات العقوبات الجماعية في العام السابق. عملنا معاً في تناغم تام طوال شهر، في ما اعتبرته نموذجاً رائعاً للفاعلية. ونتيجة لمساعينا لفتنا انتباه أجهزة الاعلام الى ممارسات اسرائيل المستمرة في تعذيب المعتقلين الفلسطينيين. غير ان ذلك بدأ يخبو أصلاً في ذاكرتي. فقد تتابعت الأزمات واحدة تلو أخرى ذلك الشهر آذار وكان لا بد من اخراجها من النطاق الضيق المحصور بالضفة الغربية. وكانت تلك مهمتي التي تم الاتفاق على القيام بها لمصلحة خدمات وكالة "انتر برس" الايطالية. كان نمر مسؤولاً رفيع المستوى في حركة "فتح". وكان متمرساً في هذا النوع من الاتصالات مع "الداخل". بينما كنت لا أزال مبتدئة، ومعتادة بدرجة أكبر على المناقشات الحامية والصدامات وليس هذا النوع من العمل السري. وعلى رغم نبرة الاطمئنان التي بثها صوت نمر، شعرت بحرارة وبدأت أتلعثم أثناء سردي تفاصيل وقائع اليوم. كنت أدرك ان عليّ أن أكون دقيقة ومحددة: - "حققنا انتصاراً حقيقياً اليوم. فقد تخلوا عن محاكمة عشرين من طلبة بيرزيت. وقد نجحت في حشد خمسين صحافياً لمتابعة المحاكمة. منهم دونالد نيف الصحافي في مجلة "تايم"، وترودي روبن وهي صحافية متعاطفة مع الفلسطينيين تعمل في صحيفة "أميركان ديلي" التي تصدر في تل أبيب، الى جانب مراسلي "كريستيان ساينس مونيتور"، وصحيفة "بوسطن" الليبرالية اليومية. وقد كونا حاجزاً مرتجلاً أمام المحكمة العسكرية أثناء انتظارنا رد فعل يوسف لوتز الحاكم العسكري الذي فغر فمه دهشة أمام وابل أضواء كاميراتنا وكراساتنا الصغيرة". وانطلقت مني ضحكة عصبية. فقد شعرت للحظة خاطفة كأن المناضد قلبت رأساً على عقب. ووجد الضابط الاسرائيلي نفسه حائراً تماماً لا يدري كيف يرد على الأسئلة الدقيقة التي وجهت اليه في شأن المحكمة السرية. نهضت في شيء من الترنح. لا يمكن أن يكون زائرنا صديقاً ويسحق الباب بهذه الطريقة، خصوصاً في مثل هذا الوقت من الليل. وبدأت الأفكار تتسابق في ذهني. - نمر لقد سمعوا كل شيء. ووضعت السماعة مكانها في هدوء. يا الهي، لقد خسرت اللعبة، قلت لنفسي أنه كان ينبغي أن أعرف ذلك عندما بدأ خط الهاتف ينقطع. اهدئي يا حبيبتي، انك تدركين ان ذلك سيحدث لك ذات يوم. لكنهم ظفروا بك الآن. أو قد لا يكون ذلك حقاً. قد لا أكون أنا المعنية. ربما لست أنا، وانما غابي ابنها. زوار منتصف الليل ارتفع صوت داود زوجها كان واضحاً أنه كان يحاول منع الدخول الى شقتنا. ولولا الظرف العصيب لاضحكني منظره وهو يقاوم بثياب النوم. صرخ قائلاً بالانكليزية: "لماذا كل هذا الازعاج والعنف؟ من تحسبون أنفسكم؟" دلفت الى الغرفة مرة أخرى والتقطت سماعة الهاتف. وقبل أن أضعها على أذني خطفتها يد مني ووضعتها مكانها. التفت فرأيت جنوداً اسرائيليين يضعون بنادقهم الآلية من طراز الجليل على صدورهم، وكانوا بدأوا ينتشرون في غرفة الطعام كأنهم كانوا في مهمة في مناطق الحرب في لبنان. بنظرة خاطفة استطعت أن أحصي ثمانية منهم في نحو عمر ابنتي الكبرى، 18 عاماً. أتاني صوت من آخر الغرفة، قال بعربية مفعمة بالتهديد: "لا يا سيدة الطويل. لن تستخدمي الهاتف. يكفي ما تحدثت به مع منظمة التحرير الفلسطينية. انك آتية معنا". قلت في تهكم: "منظمة التحرير!" ولمحت نظرة اندهاش على وجه المجند الشاب الذي انتزع سماعة الهاتف مني. لم يكن يتوقع رداً بأي لغة ليأتيه ردي بالعبرية عندما قلت له: "كنت أهمّ بارسال تقريري المعتاد الى وكالة خدمات انتر برس في روما. فقد حجزت المكالمة ودفعت قيمتها". تسمرت ساقاي مكانهما وشعرت بصعوبة في الاستمرار واقفة عندما جاءني رده: "ليس لنا اهتمام بأكاذيبك. دعينا نسلك طريقنا، بسرعة. ان الحاكم العسكري يريد مقابلتك". قلت في منتهى الحزم: أريد أن اتجهّز للذهاب. أرجوك أعطني وقتاً لارتدي ثيابي لما يليق بمثل هذه المقابلة غير المهمة. هزّت سخرية اجابتي الجندي. ومن دون أن انتظر رداً منه عبرت أمام الجنود الذين كانوا يقفون على بعد لا يزيد على قدم وتوجهت الى الباب. لم يتحرك أي منهم عندما عبرت الممر. سمعتهم يوجهون أوامرهم على عجل، مثلما سمعت وقع أحذيتهم على بلاط الصالة. ركضت نحوي مجندة، كدت أشعر بأنها ستمسكني من عنقي، لكنها سمحت لي بدخول غرفتي من دون عراقيل. وعندما غسلت وجهي وضعت المجندة الاسرائيلية اصبعها على زناد بندقيتها. قلت لها: "أريد ان أرى بناتي". - نعم، طبعاً. تطلعت حولي ونظرت الى الجنود في اعينهم عندما كانوا يقتادوني من منزلي في رام الله. كان ثمة شيء غريب في نظرتهم. كانوا باردين وساخرين. كأنهم كانوا يعرفون اسراراً مخيفة عني، وعن الجهة التي كانوا سيأخذونني اليها، وعن المصير الذي ينتظرني هناك. وعندما وصلنا الى السيارات الثلاث التي كانت تقف امام المنزل، دفعوا بي في الجانب الخلفي، وفي اللحظة نفسها أداروا محرك السيارة وصفارات الانذار. انعطفت السيارة العسكرية يساراً وشقت طريقاً قذرة تفضي الى مكتب الحاكم العسكري. لم تزد المسافة من بيتنا الى هنا أكثر من كيلومترين لكنها بدت دهراً. توقفت السيارة. وببطء شديد أتى جندي بدين ضخم الى السيارة وحشر رأسه من النافذة. فقفزت الى الوراء وتأو ّهت: أنت؟ بذلت جهدي لكي استعيد تماسكي، عندما سمعته يقول: "آمل ألا تبصقي في وجهي ثانية". وتطلع الجندي الى اسفل وعلى وجهه نصف ابتسامة، ثم أضاف هامساً: "آسف اني وصلت الى هذا الحد، لكنك حقاً كنت فاقدة السيطرة على نفسك. ولكي أكون اميناً معك فانا لم أكن اعرف آنذاك من أنت. تدركين في لحظة الانفعال..." ساد صمت عندما تطلع جندي وضابط الى السيارة. وفجأة وبلهجة دروز الجليل التي لا يمكن ان تخطئ الأذن سماعها تمتم قائلاً: "لو رآك ابوك الآن لتململ في قبره". انت؟ هل كنت تعرف أبي؟ اجاب: "كنت اعرفه، بل كنت اعرف جدك من كفر سميه". زادت السيارة سرعتها بعدما بارحت رام الله. اتضح لي انهم لن يأخذوني الى الحاكم العسكري في هذا الوقت من الليل. واعتقدت بأنهم سيجعلونني اتلاشى في صقيع الصحراء الأردنية بعيداً تماماً عن امكان أي عملية انقاذ. ولكن عندما وصلنا إلى ضواحي القدس، انعطفت أول سيارتين في موكبنا الذي يضم خمس سيارات نحو اليمين في تجاه الطريق الى يافا. فشعرت بارتياح، اذ انهم على الأقل سيتركونني اعيش في هذه الأرض المقدسة. غير ان ارتياحي لم يدم طويلاً، فقد كان واضحاً انهم ماضون بي صوب سجن المسكوبية. توقف الموكب، وانفتحت بوابتان حديديتان خضراوان ضخمتان، ومضينا عبرهما. وسمعت دقات احدى الساعات تعلن ان الوقت كان الرابعة صباحاً. الزنزانة الرقم 12 طلب مني موظف نحيف البنية ان أفرغ ما في جيوبي، فسلمته محفظتي على مضض. أشار إلى ناحية مصاغي، فأخرجت خواتمي وساعتي وعقدي. تسلمها الرجل ودفع نحوي بورقة مكتوبة باللغة العبرية، وقال: "وقِّعي هنا". ففعلت. اصابني اللعاب الصادر من فمه بغثيان شديد. خرج ضابط أمن من احد المكاتب وأخذ ورقة عليها اسمي، وصاح: "وجهت اليك تهمة التحريض. فقد عثرنا على منشورات في منزلك تدعو الى تمرد مسلح". والتفت الى الحارس قائلاً: "خذوها الى قسم النساء د، الزنزانة الرقم 12". تقدم أحد الحراس وقبض على ذراعي وأدخلني وراء الحاجز المعدني الذي قطعني تماماً عن العالم. وعلى الجانب الآخر هناك ممر طويل وعريض، وعلى الجدران انوار نيون تنعكس على ابواب الزنزانات. تقدمت امامنا امرأة ترتدي زي حراس السجون. وتقدم حارسان ليسندا ذراعي بعدما بدأت اتهاوى. مزيد من الابواب، واصوات الاقفال والمفاتيح، وجدران مدهونة باللونين الأزرق والأخضر. ارغمني الحارسان على التوقف وطلبا مني التراجع خطوة الى الوراء، ثم الاستدارة شمالاً لأجد نفسي قبالة باب زنزانة من الصلب يحمل الرقم 12. دفعت الحارسة الباب. وصرخت في العتمة: "استيقظي أيتها الملعونة". وانطلقت أنّة رداً على صرختها. سمعت عراكاً كأن شخصاً كان يصارع تحت قدميها. فصرخت، لأن وجهاً ظهر فجأة تحت الضوء الذي لا يرحم. وجه لا يمكن وصفه بأنه وجه انسان. ولم أكن لأتبين انها امرأة لولا ان تنورتها المهترئة التي كانت ترتديها مثل قميص النوم كانت تغطي ساقيها. وحيث ينبغي ان تكون العينان، كان هناك ثقبان لا قرار لهما. وكان شعرها حليقاً وظهرت ندوب على فروة رأسها تصل حتى الجانب الأيسر من وجهها. كان واضحاً ان تلك الندوب نجمت عن حريق مروِّع. يا لأحمرار وجهها! وكانت تتنفس بحشرجة ظاهرة. قالت لي السجانة: "هذه إحدى نسائكم. انظري ماذا فعل الله بها. لقد حاولت ان تصنع قنبلة في المنزل لكي تقتلنا. انظري الى العقوبة التي لقيتها. انظري الى ذلك الوجه فحسب". وجذبتني من شعر رأسي واقتادتني من مكاني خلف زميلتها. سادت لحظة صمت. واغمضت عينيّ. كانت السجينة لاتزال في الانتظار. فصاحت الحارسة: "خذوها الى الزنزانة 65". دفعها احد الحراس بقوة وقذفوا بي في الزنزانة 12. قالت السجانة: "سنضمن صباحاً انك ستندمين على ارتداء هذه الملابس التي تجعلك تبدين كأنك ذاهبة الى حفلة. جرح لا يندمل السجن وحده كانت له مساوئ كافية. لكنني كنت أدرك كامرأة اني سأواجه بالرفض من قبل مجتمعي. رفض لا يعرف عنه الرجال الفلسطينيون شيئاً. لانهم يعتبرون ابطالاً بعد تكبدهم مشاق التحقيق والضرب والعزل والمرض. اما بالنسبة الى النساء فهي تعتبر اهانة لاسم العائلة، وهو جرح لا يندمل ابداً. فهناك حالات معروفة أملك وثائق تثبتها يهجر فيها الرجل زوجته السجينة بعد الافراج عنها، بسبب اشاعات عن اغتصابها وراء القضبان. وبالطبع تبذل السلطات الاسرائيلية ما في وسعها لاذكاء تلك الاتهامات. بدأت أدرك معنى تلك النظرات الزائفة التي تطل من عيون السجينات المفرج عنهن، الصعوبة التي يلاقينها في التأقلم مع الحرية خلال أول أشهر بعد اطلاقهن، واعراضهن عن التحدث عن تجاربهن، ويبدو كأنهن يسعين الى العزلة التي اطلقن منها للتو. اقتحم الزنزانة زوج من الاحذية العسكرية فألفيتني انهض من سريري. صاحت السجانة: "انهضي. أوَتحسبين نفسك في فندق هيلتون؟ ترتدين ثياباً توحي بأنك ذاهبة الى حفلة. حسناً. انها حفلة ستيشين وتندمين عليها. ابدئي بتنظيف هذا المكان". ودفعت لي بمكنسة. كانت سحنتها ولكنتها توحيان بأنها من أصل اوروبي شرقي. فريال على قيد الحياة بعد تنظيف الزنزانة ونفض الغبار عنها وتنظيف الركن المخصص للاستحمام، اقتادتني افيفا الى حجرة الطعام، وامرتني بعدم التحدث إلى أي شخص. كان البلاط داكناً نتيجة الغبار المتراكم. وكانت الحشرات تغطي الموائد. وأخرجت الحارسات مجموعة من السجينات عند ادخالي حجرة الطعام. وبدأ جمع آخر من السجينات بتنظيف الموائد. لمحت في رأس احداهن البقع الصلعاء والندوب التي تعلو الجبين، السجينة نفسها التي اقتيدت من زنزانتي الليلة السابقة. أشارت أفيفا بهراوتها نحو ظهر السجينة وقالت: "انظري الى تلك، ترين كم عظيم هو الرب. انظري الى فريال. لقد خسرت وجهها ولم تعد لها حياة لأنها حاولت قتلنا. شهقت وضممت معطفي الى جسمي، وسألتها: انت فريال... فريال سالم؟ نظرت إلي بعينها السليمة الوحيدة، وردت بهدوء: "نعم. أنا فريال". - اذن فأنت حيّة. اعني اننا جميعاً اعتقدنا... كان اسم فريال معروفاً في كل بيوت مدن الضفة الغربية. فقد قادت عملية مشتركة وتم تفجير شريكها في هجوم فاشل، وانقطعت اخبارها فظن الجميع انها قتلت أيضاً. وعلى رغم الحروق الشديدة في وجهها الا انها بقيت قوية بدنياً ورشيقة. لقد نجت بأعجوبة حقاً من ذلك الانفجار. سألتني بصوت هادئ ينم عن أمومة: "انت ريموندا أم أني مخطئة؟ يجب ان تكوني قوية. كُلِي وإلا فستنهارين اثناء الاستجواب". جلست فريال بجانبي وألقت نظرة حذرة حول المكان وقالت: "قلت لك كُلِي". ابتلعت شعوري بالمهانة وبدأت أغرس الملعقة في الثريد، لكني بعد ثلاث لقمات دفعت الطبق بعيداً من شدة اشمئزازي، فتناولته وبدأت تأكل ما بقي من ثريدي. وكانت أفيفا خلفنا تصرخ مطلقة أوامرها لبقية العاملات في المطبخ. أوضحت لي فريال ان طبيباً اسرائيلياً اجرى لها جراحة في الوجه، وقالت: "وضعوا لي هذه العين الاصطناعية محل عيني المفقودة. ولو لم يفعلوا لكان رد فعل كل من يراني مثل رد فعلك البارحة عندما رأيتيني". عادت أفيفا لتقترب من فريال، والتقطت الطبق من أمامها وقذفت به بعرض الغرفة وصاحت بها: "هذا ليس طبقك". واقتادتها من ياقتها وابعدتها عن المائدة. نظرت فريال خلفها وتطلعت نحوي أثناء اقتيادها من الغرفة، وأشارت لي بأصبعها علامة النصر. غير ان شفتيها ارتجفتا وتسارعت انفاسها عندما دفعتها أفيفا الى خارج الغرفة. أم العبد بقيت وحدي أسيرة لأفكاري. فجأة شعرت بيد تمس كتفي، وتحسس معطفي. التفت فاذا بامرأة ترتدي ملابس السجن القطنية الخشنة تمد إلي كوب شاي. قالت لي: "اشربي هذا يا بنتي. ومن الآن فصاعداً اقبلي أي طعام يُقدّمُ إليك. يجب ان تتعلمي التحمل. انه شيء مختلف تماماً عن كل ما تعرفين". من أنت؟ اجابت "انا أم العبد. ربما سمعت بي من خلال أولادي". أم العبد... أم العبد... نعم! اعتقل الاسرائيليون هذه المرأة وهي في عقدها السادس لأن ولديها الفدائيين اعتبرا من المخربين. وكانوا يأملون ان يرغم سجن الأم ولديها على الخروج من مخبئهما والاستسلام. وهي ممارسة شائعة. لم تكن الليلة الثانية في السجن احسن حالاً من سابقتها. أُنذرت بأن الاستجواب سيبدأ صباحاً. أي قدر من المعلومات يعرفونه عني؟ لقد قابلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت قبل 18 شهراً. هل يعلمون شيئاً عن المحادثات التي اجريتها مع ياسر عرفات، وأبو جهاد، وفاروق قدومي وآخرين؟ هل سيسألونني عن اجتماعاتي مع قادة المنظمة في باريسوروما؟ المحقق يوسي في الثامنة صباحاً فتحت روز - وهي حارسة مخيفة داكنة البشرة يبدو واضحاً أنها تنتمي الى أحد بلدان العالم العربي - الباب بعينين منهكتين وابتسامة حزينة. فتحت باب زنزانتي وطلبت مني أن اقتفي أثرها. هبطت بي الى الطبقة التي تحت الأرض. فتحت باباً معدنياً ضخماً، ودفعتني الى الجلوس على مقعد معزول. أطلّ من خلف الظلال رجل قصير جلس قبالتي خلف مكتب خشبي رخيص. حدجني بنظرة من أعلى الى أدنى. ولا شك في ان شفتيه الرقيقتين، وذلك الندب الطويل على الجانب الايمن من وجهه جعلته يبدو لي فظاً وقاسياً. مال بجسمه الى الوراء، وأشعل لفافة تبغ، ولم يتكلم الا بعدما تأكد انه استنشق آخر نفس فيها. وشعرت فجأة بأن الجدران توشك ان تنهار عليّ. بدأ حديثه بالقول: "ريموندا. ستعاقبين على ما قمت به: اهانة الحارسة والقاء خطبة في غرفة الطعام. ليست مهمتك ان تحاضري في الناس هنا. ليس مسموحاً لك بالرد على السجانات". لم أقل شيئاً. وتابع بالعبرية: "اسمي يوسي. سنتعارف اكثر. في الأيام المقبلة، او على الأقل سأعرفك معرفة أفضل، فقصتك اكثر اثارة من قصتي". ونهض يوسي وبدأ يدور حولي وأشعل لفافة جديدة. وقال في تكلف: "ان الاتهامات ضدك خطيرة جداً. حجتنا عليك قوية وستبقين هنا بضع سنوات اخرى. ان الاتهامات خطيرة جداً ما لم تعترفي وتتعاوني. هل تعرفين ما اقصد بكلمة متعاونة؟ لا تخف شيئاً، لاننا نعرف كل شيء عنك بما في ذلك أدق التفاصيل الحميمة عن حياتك، فالاستخبارات الاسرائيلية هي الاقوى في العالم كله. نحن نعرف ما يحصل بين الزوج وزوجته". توقف لحظة قبل ان يسأل: "مع من تحدثت في بيروت؟ من قابلت في روما؟ نحن نعرف كل شيء عن مؤتمرك الصحافي هناك". اجبته: "لقد تحدثت صراحة، وأوردت الصحف الاسرائيلية ما قلته. ولم يكن هناك شيء سري". وفجأة رن الهاتف الذي كان يضعه فوق ملفي، رفع السماعة وقال: "أوه. الآخرون معك. حسناً. رحِّب بهم ولكن اضمن وجود طبيب قريباً منك ليعالج أي أضرار. ولا تتصل بي قريباً، فأنا أقوم بطهو مشتبه فيه هنا. أرسل لي كوب قهوة فقط". ووضع يوسي سماعة الهاتف، وأشعل لفافة ثالثة من عقب اللفافة الثانية، وألقى الاسئلة نفسها. وعندما اجبته الاجابة نفسها عاد ليطرح السؤال الأول، وتكرر ذلك عشر مرات او ما يزيد. فجأة رفع صوته كمن يصرخ: "انت تنتمين الى منظمة ارهابية غير قانونية. وقد ذهبت الى بيروتوروما لجمع أموال لشراء أسلحة. لدينا معلومات كافية عنك هنا…". وأضاف بعدما نهض وضرب الأوراق التي على مكتبه بقبضة يده: "تكفي المعلومات لابقائك وراء القضبان سنوات عدة". وانخفضت نبرة صوته حتى بدا كمن يهمس همساً: "سهّلي الأمور من أجل اسرتك. أنظري أي عار سيكون سجنك هذا بالنسبة اليهم. ابلغينا فقط من تعرفين وطبيعة المحادثات التي اجريتيها منذ اطلاقك من الحجز المنزلي، وسنرى هل نستطيع اخراجك من هنا في وقت مناسب قبل امتحانات ولدك". فقلت له: "انه لا يحتاج الي لكي يجتاز امتحاناته". الاسبوع الأول في المسكوبية وبعد خمس عشرة ساعة من الاستجواب، من دون تناول طعام او ماء، عدت الى غرفتي. ومثل افلام الرعب التي لا نهاية لها انقضى اسبوع على بقائي في المسكوبية". وكل يوم يبدأ وينتهي بالطريقة نفسها. طارق يطرق باب زنزانتي فجراً. يعطونني كوباً من الشاي. وبعد ساعة اجدني أمام يوسي. ولم يتغير أي شيء عما حدث في الساعات الخمس عشرة الأولى في أول أيام التحقيق، حتى بدأت أخشى على عقلي من الجنون اذا استمر عدم وجود اتصال بالعالم الخارجي. ان السجن معركة مستمرة ضد اليأس. فقدت 15 كيلوغراماً من وزني داخل السجن، معظمها في الأسبوع الأول. ومهما حاولت العمل بنصائح فريال، ان اتناول الطعام لتبقى فيّ قوة، فقد وجدت نفسي غير قادرة على تناول طعام السجن. ودرج يوسي على ان يحدق فيّ بطريقة غريبة عندما أروح او اغدو. يستند الى ملفه المفتوح ويتنحنح، ثم يبدأ بتوجيه اسئلته كأننا في أول ايام التحقيق وكأنه ينفذ تعاقداً روتينياً. غير ان لعبته لم تكن خافية عني. فقد رأيت بنفسي مراراً نتيجة الاعترافات التي تنتزع من السجناء وتستخدم في محاكم نابلس العسكرية في محاكمات حضرتها بصفتي صحافية. وطبقاً لما قاله السجناء الفلسطينيون الذين اجريت معهم مقابلات صحافية، فإن الضباط الاسرائيليين - ومعظم المحققين من الرجال العاملين في الخدمة العسكرية - ينجحون في انتزاع "اعتراف صغير" من السجين بعد وعده بأن يكون ذلك أساساً لاطلاقه، وضمان سلامة عائلته. لكنهم … ما ان يحصلوا على اعتراف حتى يطلبون ثانياً وثالثاً. كان يوسي يبذل قصارى جهده لكي أبلغ مرحلة الضعف، والشعور بعدم الاستقرار. استخدم ذات يوم، اثناء اجابتي عن سؤاله في شأن زيارتي لبيروت، حيلة الهاتف، فقد اتصل برقم داخلي وسأل الطرف الآخر: "كيف يمضي الشغل؟" وبعد فترة صمت، قال: "حسناً، اعيدوه الى زنزانته وعذبوه ولا تشفقوا عليه". وبعد صمت آخر: "نعم، إنها هنا. سنرى ما سنخرج به منها". ووضع السماعة وقال من دون مقدمات: "لم تكملي اجابتك وليس لديّ وقت لأضيعه". وبدأ صوته يرتفع، والتمعت عيناه. وخرج فجأة من الغرفة، وتركني وحدي نحو ساعتين. وعندما عاد، قال: "لسانك خبيث!" ولم يترك كلمة بذيئة في قاموس اللغة العبرية ليسبّ أبويّ وأطفالي وأنا بالطبع. وذات يوم اغلق ملفاته بعد بضع ساعات من بدء جلسة الاستجواب، وقال متأففاً: "سنكتفي بهذا القدر اليوم. أراك غداً". ابو جميل اللبناني لكني لم أره مطلقاً بعد ذلك. وجيء لي بدلاً منه بيهودي شرقي لبناني سفارديم قدم إلي نفسه باعتباره "ابو جميل". قال لي: "لقد خنت مجتمعك. أهلك سينقبلون ضدك وسيصفونك بأنك متواطئة ومتعاونة معنا. وسيعتبرونك بغياً لأنك مكثت في السجن". وشيئاً فشيئاً راح صوته يرتفع وتحوّل التحقيق الى حديث أشد فظاظة وقسوة. وكنت عندما اشعر بالعذاب والضيق اصرخ في وجهه أحياناً، فيقول لي: "اصرخي ما شئت فلن يجدي ذلك. لأننا أصلاً اعلنا انك بعت عائلتك وأصدقاءك ومددتنا بأسماء عدد من الارهابيين". فرددت عليه: "انت يهودي عربي خان اجداده العرب وجذوره. أنسيت ما تعلمته في مدارس لبنان من انه خير للمرء ان يموت بشرف من ان يعيش ذليلاً. انت في نظرنا ذليل وعار. وجدت نفسي ذات يوم محاطة في غرفة الطعام بأكثر من عشرة جنود ومجندات كانوا سمعوا عني من خلال ما بثه التلفزيون عن اعتقالي. قال احدهم بنبرة خطابية: "هل هذه هي القذرة التي تسبب كل هذه المشاكل؟" وقال آخر: "لقد سفكت دماً يهودياً. سنلقنك درساً. ان العقول العربية ليست طبيعية. العرب قذرون وقُساة ومجرمون يقتلون النساء والأطفال. جبناء". بدا لي ذلك كله مثل عرض مذهل. تدخلت مجندة شقراء من أصل روسي قالت: "اتيت الى اسرائيل لأعيش بسلام في كريات اربع. لكني وجدت نفسي أعيش في خوف. سنلقنكم ايها العرب درساً…". بعد يومين جيء بي الى غرفة الاستجواب في وقت مبكر على غير عادة. بقي ابو جميل واقفاً، ولم ينزع معطفه الجلدي الثقيل، وظل متأبطاً ملفاته الضخمة. وقال: "تلقينا تعليمات بوقف الاستجواب. فقد بعثت وكالة خدمات انتربرس في روما برقية الى رئيس الوزراء تؤكد فيها انك مراسلتها هنا". وخفض ابو جميل نبرته قليلاً ثم اضاف: "لكنني ما زلت غير قادر على ان اصدق انك صحافية فحسب!"