اختتمت فعاليات الملتقى الثقافي (فلسطين في فكر إدوارد سعيد) الخميس الماضي والتي استمرت مدة يومين في دمشق. جاء الملتقى تحت رعاية وزير الإعلام السوري د. محمود السيد وتنظيم مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية. بدايةً، تحدث السيد وزير الإعلام حول المفكر الراحل وقال: (الواقع كان لفلسطين طابع خاص في فكر أدوارد سعيد، وتأتي هذه الخصوصية من أفقه الإنساني والممتد والموصول بكل ما هو جميل في الخصوصيات والتعدد)، وأضاف د. السيد: (كما تأتي من السمات الإيجابية لهذا المفكر الدؤوب والإنساني وتتسم ثقافته بالشمولية، لأنها تخاطب العقل والوجدان معاً، وأيضاً تعدد الأبعاد) فهو - كما يشير السيد الوزير- (إنه أستاذ أكاديمي للأدب المقارن وموسيقي متميز وناقد سياسي وقارئ متمكن لحركة التاريخ ومقاوم صلب لكل أشكال السيطرة والظلم والاستبداد). عقب كلمة راعي الحفل جاءت مداخلة ممثل منظمة التحرير في دمشق (سفير فلسطين في سوريا) الأستاذ محمود الخالدي. رأى الخالدي: (إن الموت الذي وافى إدوارد سعيد في الخامس من ايلول سبتمبر الماضي قد أخرج وحسب، سعيد من صف الأحياء بامتياز الى صف الخالدين حيث العمر يتواصل بلا نهاية). بعيد كلمة مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية والتي قرأها أكرم ابراهيم، ألقيت (بالنيابة) شهادة ناشر صحيفة السفير البيروتية طلال سلمان الذي اعتذر عن الحضور لدواعي صحية. بدأ سلمان (نكاد نشكر الموت الذي عرفنا على إدوارد سعيد، فليس سراً أننا تعرفنا على إدوارد سعيد بعدما غدا خارج المكان، أكثر مما عرّفتنا به كأمة في حياته الغنية بالانتاج المتميز والذي أحدث نوعاً من الزلزلة الثقافية في الأوساط الأكاديمية بل الفكرية الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً). وأوضح ناشر السفير (لقد أعادت فلسطين بعض إدوارد سعيد إلى الجمهور العربي فعرفه عبر الموقف السياسي أكثر مما عرفه عبر إبداعاته الفكرية التي خلخلت الكثير مما كان يعتبر من ثوابت النظرة الغربية الى العرب عموماً وإلى القضية الفلسطينية والمشروع الإسرائيلي خصوصاً). وتابع سلمان: (وحينما عاد إلينا إدوارد سعيد بعد غربة طويلة استقبلناه بينما نحن نكاد في غياهب تغربنا عن أنفسنا وأرضنا وهويتنا ملتحقين بالمهم من الأمريكي الكوني، الذي قاتله إدوارد سعيد في عقر داره وفي أفكاره الخاطئة، واستطراداً في مشروعه السياسي الذي يستهدف مباشرةً حقوقنا وأرضنا وتقرير مصيرنا وفي بناء مجتمعاتنا وبما يتناسب مع الكرامة البشرية، ومع حقنا في التقدم وفي الاختيار الديمقراطي لأنظمتنا السياسية، بغير قسر او قهر أو إلغاء لهويتنا الوطنية). ثم أشار طلال سلمان الى أن إدوارد سعيد (لم يكتب لنفسه فقط، فهناك دائماً الآخر كما يقول سعيد، وهذا الآخر سيحوّل التفسير الى ممارسة اجتماعية مرتبطة بنتائج الجمهور). ثم واصل سلمان (لم يكتب سعيد نقداً للنقد، بل كتب صادقاً مع مقولته إن على الناقد أن يكون ضد أي شكل من اشكال الطغيان والهيمنة، ويجب ان يكون هدفه الاجتماعي هو انتاج المعرفة التي هي الحرية الإنسانية). وأوضح سلمان ان المفكر الراحل (كشف ان الاستشراق لم يكن يوماً عن الشرق بل كان حيلة لإنتاجه للغرب، وليبصر الغرب كيف يسيطر على الشرق ويستتبعه). نهاية مشاركة الأستاذ سلمان أورد شهادته في سؤال طرحه على إدوارد سعيد في آخر لقاء جمع الاثنين خلال مؤتمر (المنظمات العربية المناهضة للتمييز العنصري) في واشنطن قبل ثلاثين شهراً: (متى ستأتي إلينا في بيروت؟).. لقد ردّ كما توستوفسترا - على حدّ تعبير سلمان -: (يقدّر لي الأطباء أن أعيش ستة أشهر ولسوف أحاضر في بيروت ولكن الأهم أنني سأذهب الى الجنوب الذي تحرر الآن، وأستطيع أن أتمتع بمشهد الجليل كله حتى البحر، وسأذهب لكي أتعرف على ما لم يقدر لي أن أمشي فيه من الأراضي الفلسطينية، إنني قوي فاطمئنوا..). واصل سلمان سرد شهادته (لقد جاء فعلاً وذهب في جولةٍ وفرت الخاتمة المهيبة عبر صورته وهو يرتفع بجسده وفي يده ذلك الحجر المقدس لكي يرمي به جندي الاحتلال في برجه المصفح). إدوارد سعيد خلسة في بيروت: د. نبيل اللو عميد المعهد العالي للموسيقى في دمشق أدلى شهادةً كانت الأكثر دهشة واستغراب، عندما أبلغ جمهور المثقفين والإعلاميين والأدباء عن مجيء المفكر الراحل الى دمشق، وكان ذلك في منتصف حزيران يونيو الفائت. يسرد د. اللو قصة زيارة المفكر الراحل - الغريبة - الى دمشق: (في صباح أحد أيام منتصف حزيران، وقبيل الساعة التاسعة صباحاً رن جرس هاتفي النقال وظهر على الشاشة بالإنكليزية CALL اتصال، فتحت السماعة وإذا به صوت بعيد يقول: فلان، قلت: نعم، قال: صباح الخير أنا إدوارد سعيد). تعجب د. نبيل الذي اشار الى أنه لم يكن يعرف إدوارد سعيد إلا بالاسم، وبعد أن رحب د. اللو بسعيد قال الأخير: أنا على الحدود السورية اللبنانية، وسوف آتي الى زيارتك إن كان لديك متسع من الوقت؟ رحّب د. اللو مرة أخرى بإدوارد الذي مرر الهاتف الى سائقه كي يأخذ عنوان المعهد العالي للموسيقى حيث يتواجد مدير المعهد. تمام الساعة العاشرة والنصف جاء إدوارد سعيد الى المعهد وبصحبته زوجته ولبنانيان وسيدتان، يقول د. نبيل: (استقبلت السيد إدوارد سعيد في مكتبي، وتكلمنا في مواضيع شتى، وقال لي: أريد ان أختلي بك لبعض الوقت). قبل ان تحصل هذه الخلوة قام مدير المعهد وضيفه بجولةٍ الى القاعات الموسيقية والمسارح الموجودة في المعهد، ثم مضى الإثنان الى دار الأسد للثقافة والفنون، وأجريا زيارةً مستفيضة الى المسارح الموجودة في الدار. وينقل د. اللو ان إدوارد سعيد ذهل مما رأى وقال: (لو قلت لهم في أمريكا عما شاهدته لما صدقني أحد!). بعد ذلك أخذ الجميع يمشون في حديقة الدار الى أن طلب إدوارد لمن كانوا معه أن يبقوا في الحديقة، وأن يذهب معه د. اللو الى مكتبه كي يختليا معاً، عندها بقي زميل د. اللو وهو د. سليمان زيدية مع الضيوف.. بعيد دخوله غرفة مدير المعهد العالي للموسيقى، طلب إدوارد سعيد من د. اللو (أن يغلق الباب!).. ولبى المضيف الطلب، التفت إدوارد الى نبيل. ثم تحدثوا في أمور ثقافية وفكرية وحول دراسة أبناء الدكتور اللو للموسيقى. ثم واصل د. نبيل عرض ما دار من حديث وتساؤله (أترك هؤلاء الأولاد.. أترك لي ابناءك وبناتك يجوبون العالم في فرق موسيقية على مسارح أوروبا وأمريكا، لأنهم يفعلون فعلاً وتأثيراً عجيباً في الجمهور الذي يستمع إليهم على هذا المستوى الفني الراقي).. وتابع سعيد: (إن هناك مشروعاً اسمه ديوان شرق غرب سوف تستضيفه إشبيلية يقوم به معي قائد الأوركسترا دانيال بارابويا - أرجنتيني المولد، إسباني الجنسية، يحمل الجنسية الإسرائيلية، إلا أنه مناهض لسياسة حكومته - وأريد أن تشارك فيه معي، وأريد أن نكتب سويا اشياء كثيرة عن الوسط الأكاديمي الموسيقي في الشرق الأوسط وأن نعرج على تاريخ الثقافات الموسيقية في المنطقة، وأن نحاول ان نستصدر لنا مشروعاً يجمع هذه الثقافات الموسيقية، حسب المناطق الجغرافية الموجودة في المنطقة، نوثقها ونسجلها وننشرها..). رد د. نبيل موضحاً (إن لدينا نحن في المعهد العالي للموسيقى مشروعاً من هذا القبيل؛ هو أن نكلف عددا من الباحثين والخريجين أن يذهبوا ويجمعوا حسب المناطق الجغرافية السورية كل التراث الفلكلوري الشعبي، نجمعه تسجيلاً لأصحابه ثم ندونه، وأخيراً نعكف على دراسته وتحليله بشكل أكاديمي موسيقي، ثم نكتب كل هذه الدراسات وننشرها على أسطوانات وفي كتب). إدوارد سعيد كان يريد من الفرق الموسيقية السورية أن تشارك في ديوان شرق غرب مع بارابويا، وحاول د. اللو القيام بالمشروع فيما بعد غير أنه تحرج من الوقت السياسي السائد آنذاك - حرب العراق وتبعاتها على الأوضاع السورية -، ثم طلب د. نبيل اللو من الضيف أن يسمح له كي يتصل بعدد من الصحفيين والكتاب والإعلاميين في الإذاعة والتلفاز السوري إلا ان سعيد رفض وقال: (إن زيارتي ليس لها أي طابع رسمي او سياسي، أنا جئت للمعهد العالي للموسيقى لأنني قرأت بعض ما تكتبون حول وجهة نظركم لتطوير الموسيقى العربية من خلال مجلة الحياة الموسيقية التي تصدرها وزارة الثقافة..، وجئت لأنني التقيت بمجموعة من الموسيقيين الذين اذهلوني بعزفهم مثل كنان العظمة وماريا أرناؤوط). نهاية سلسلة طلبات المفكر الراحل كان الأغرب حيث قال للدكتور نبيل: (أريد أن أرى المسجد الأموي).. وبالفعل لبى د. نبيل ما أراد المفكر إدوارد سعيد. في مكتب د. اللو تطلع المفكر سعيد الى صورة السيد الرئيس بشار الأسد وقال: (سمعت عنه الكثير..) التفت اليه د. نبيل وقال: (هل تود لقاءه؟) أجاب أدوارد: (وهل ذلك ممكن؟!) رفع د. نبيل سماعة الهاتف واتصل بمكتب الرئاسة، أخبرهم بأن السيد إدوارد سعيد موجود لدينا في المعهد العالي للموسيقى، وأرجوا ان تعلموا بذلك السيد الرئيس. ويبدو ان الرئيس الأسد كان مشغولاً جداً لأن الأجواء السياسية كانت ساخنة - الأحداث في العراق كانت في ذروة غليانها - يظهر أن المعلومة وصلت للرئيس مساءً وفوراً اتصل مكتب الرئاسة - مساءً - بالدكتور اللو وسألوا أين السيد إدوارد سعيد؟ أجاب د. نبيل أنه غادر، وسأل المكتب الرئاسي كيف غادر؟ أجاب د. نبيل مرة أخرى أن السيد إدوارد جاء لمدة أربع ساعات الى دمشق وغادر، ولم يتمكن من البقاء. كما ألحّ د. اللو على ضيفه أن يبقى ولو لليلة واحدة في دمشق ولكن رد إدوارد سعيد كان لا يحتمل (أنا قد أموت في أية لحظة)، وتابع سعيد بلهجة عامية (ما بدي إبليكم فيي!)، حتى إن د. نبيل اللو في آخر اتصال له مع المفكر قبل عشرين يوماً من رحيله رجاه أن يأتي لزيارة سوريا ووعده سعيد، ولكن - على حد تعبير د. نبيل - كان الوعد باهتاً، ربما لأنه كان يشعر أنها النهاية. كما عقد في الملتقى ندوتين حول فلسطين في فكر إدوارد سعيد، شارك في الأولى الناقد د. فيصل درّاج، والروائي اللبناني إلياس خوري وأستاذ الفلسفة في جامعة دمشق د. يوسف سلامة. وشارك في الأخرى أستاذ الفلسفة والباحث د. أحمد البرقاوي والأستاذ عماد شيخ الجبل ود. سماح إدريس. القصيدة نهاية الحفل قرأ الشاعر ماهر رجا قصيدة تحت عنوان (ليلة الشهداء) في ليلة الشهداء/ اشجار الجراح/ وعازف في السهل يكسر جرة الألحان/ خلف ذهاب جندي الى حرب تودعه/ فيتبعها ويرمي صوته في إثرها/ سأموت فيك لتقتلي/ كي تسدل الأبواب/ إيقاع الوداع على القلاع/ كما يليق بصورة الحر ب الأخيرة..