أشكر ابتداء كلّ من تفاعل مع الجزء الأوّل من هذا المقال (المنشور في جريدة الرّياض عدد رقم 18738 الأحد 14 صفر 1441ه - 13 اكتوبر 2019) الأمر الّذي دعاني استكمال الموضوع بمحاولة لرسم خارطة طريق تساعد في الانتقال من التّنظير إلى التّطبيق. اختتمنا الجزء الأوّل بالتّأكيد على أنّ الحاجة ماسّة لبناء المؤسّسات الاستشاريّة الوطنية وتقويتها وأنّ ذلك يحتاج إلى عدّة مبادرات من جميع الأطراف ذات العلاقة بالاستشارات لتغطّي هذه الجهات الجوانب التي يحتاج لها الكيان الاستشاري. أوّل جوانب تطوير وبناء المؤسّسات الاستشاريّة الوطنيّة يتعلّق بالجوانب التّمويليّة التي تشجّع على دخول مستثمرين جدد في قطاعات الاستشارات وعلى تشجيع الممارسين والمستثمرين الحاليّين على زيادة مقدراتهم وتطوير إمكاناتهم بما يؤّهلهم لتنفيذ الأعمال الاستشاريّة التي ترسي عادة فقط على المكاتب العالميّة. إنّ من مميّزات قطاع الاستشارات أنّ الحاجّة للتمّويل متدنيّة قياساً على القطاعات الصّناعيّة أوّ الزّراعيّة أو غيرها لذلك فمن الممكن أن يكون تمويل هذا القطاع من خلال بعض الصّناديق والبرامج التّمويليّة القائمة بعد أن يتمّ إدخال ما يلزم من تعديلات في لوائحها أو في هيكل أعمالها بحيث يتمكّن مديرو هذه الصّناديق والبرامج من اعتماد التّمويل اللّازم لطلبات المؤسّسات الاستشاريّة. تحتاج المؤسّسة الاستشاريّة إلى نوعين من التّمويل الأوّل يغطّي تمويل التّأسيس ورأس المال العامل للكيان الاستشاري؛ والثّاني وهو الأهمّ تمويل المشروعات الاستشاريّة نفسها. تتأكّد أهميّة ذلك أنّ القدرة الائتمانيّة للمستثمرين المستهدفين في قطاع الاستشارات ضعيفة غالباً لذلك فهم بحاجة إلى دعم ائتماني بحيث تقبل البنوك تمويل المشروعات الاستشاريّة التي يمتلكون المقدرة الفنيّة والإداريّة لتنفيذها. ومن المبادرات التّي ستسرّع من وتيرة إيجاد كيانات استشاريّة وطنيّة قويّة تشجيع المؤسّسات الحكوميّة وشبه الحكوميّة والشرّكات العملاقة التي تحتضن أقساماً استشاريّة أن تفصل بعض هذه الأقسام الاستشاريّة في شركات مستقلّة بحيث تمكنّها من تقديم خدماتها لشريحة أوسع وتحوّل هذه الأقسام من مراكز تكلفة إلى مراكز ربحيّة. إنّني أراهن أنّ الخبرة المتراكمة لدينا في مؤسّسات وقطاعات كثيرة لو أحسّنا هيكلتها فإنّنا قادرون على أن نكون مصدّرين في القطاع الاستشاري المتخصّص لا مستوردين كما هو حاصل. هل نستهين بالخبرة الطّويلة لدينا في قطاع تحلية المياه مثلاً؟ أو في أعمال النّفط والبتروكيميائيّات التي نجحنا في تأسيس وتشغيل شركات عملاقة فيها لعقود طويلة؟ دعك من الخبرات المتميّزة في القطاعات العسكريّة والطّيران المدني. كلّ ما في الأمر أنّنا بحاجة إلى تغيير نموذج العمل فقط ونعمل مع قيادات هذه الكيانات الرّياديّة على تصدير خبراتها ولنا في شركة علم لأمن المعلومات خير مثال فهي نشأت من رحم وزارة الدّاخليّة ومركز المعلومات الوطني ثمّ أعطيت الفرصة لتقديم خدماتها لشريحة أوسع فنجحت في ذلك. إنّ من أهمّ شرّكاء النّجاح في إحداث نقلة نوعيّة في توطين الاستشارات لدينا سدّ الفجوة بين قطاع التّعليم العالي والقطاع الاستشاري وهذا محور مهمّ في وقت تحتاج الجامعات لدينا إلى زيادة اعتمادها على مواردها الذاتيّة من خلال الشّق الوقفي والشقّ الاستشاري. لذلك من الضّروري جدّاً تكامل جهود التّعليم العالي مع مسيرة التّنميّة ومعالجة العقبات التي لم تمكّن الجامعات من الحصول على حصّة مناسبة من حجم الإنفاق في قطاع الاستشارات. ولكن ماذا عن الشركّات الاستشاريّة العالميّة التي نسعى لتحويل حصّتهم من "الكعكة" إلى الكيانات الوطنيّة؟ أقول إنّنا بالإمكان أن نعيد ترتيب علاقتنا معهم لتتحوّل من علاقة مورّد للاستشارات دون قيمة مضافة إلى أن نبني معهم شراكة وطنيّة ويأخذوا حصّة بقدر مساهمتهم في تحقيق رؤيتنا الجديدة لقطاع الاستشارات. إنّ الشّركات الاستشاريّة العالميّة تهدف للرّبح في النّهاية فإذا رتّبنا معهم نموذج شراكة جديداً يحقّق ما نسعى إليه ويمنحهم حصّة من الرّبح المستدام فما الّذي يمنعهم من (أو يمنع بعضهم على الأقلّ) من قبول ذلك؟. إنّ هذه العناصر التي أشرت إلى بعضها يمكن أن تكون لبنة لخارطة طريق نحو تطوير هذا القطاع المهمّ لأمننا الوطني والاقتصادي وحتّى ننجح في ذلك فإنّ قطاع الاستشارات بحاجة إلى أن تتبنّاه جهة تملك الحماس والعزم والدّعم الّذي يمكنّها من تطويره خلال مدى زمني قصير. كلّي رجاء أن يصل هذا الطّرح إلى الجهات ذات العلاقة المباشرة والتي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر وزارة التّجارة والاستثمار ووزارة العمل وهيئة المحتوى المحلّي ومجلس الاقتصاد والتّنمية المشرف على برامج رؤيتنا المباركة 2030 فهذه الجهات الموقّرة قادرة على اتّخاذ الخطوات الّمناسبة لترشيح جهة أو فريق يتبنّى نقل المقترح بعد تنقيحه إلى حيّز التّنفيذ.