فهم التاريخ على أنه قائم على "الصراع" هو فكرة "ماركسية" قريبة من الواقع، فالصراع هو جزء من السنن الكونية التي قامت الحضارة الإنسانية عليها، لكن هذا الصراع ليس بالضرورة أن يكون صراعاً مسلحاً بل يمكن أن يكون صراعاً ثقافياً، وفي اعتقادي هو الصراع الأهم.. ربما أحتاج إلى العودة إلى نظرية "صمويل هنتنجتون" حول صدام الحضارات التي يبدو أنها أسست لهذه النظرة العدائية المعاصرة التي يكنها الغرب للحضارة الإسلامية، والسبب في ذلك أنني كنت أتحدث مع طلابي في مادة تاريخ العمارة حول معنى التاريخ، وكنت أقصد التاريخ المعماري، وقلت لهم بالحرف الواحد: إنه "صدام الأفكار والابتكارات والإبداعات بين ثقافات شعوب العالم عبر التاريخ"، وأكدت لهم أن فهم تاريخ العمارة يجب أن يبدأ من فهم طبيعة هذا الصدام الحتمي وأسباب حتميته وكيف أن الثقافات لا تستطيع الحياة دون وجود تحديات تحركها وتصقل تجاربها. الفرق بين صدام "هنتنجتون" الحضاري الذي يحث على النزاع بين الحضارات بدلاً من التعلم والتكيف والتطور وبين الصدام المعماري الذي أدى إلى انتشار الأشكال المعمارية حول العالم ونقل التجارب التقنية وأساليب التعامل مع البيئة عند شعوب العالم فرق جوهري، فالعمارة تدعو دائماً إلى التكامل بين الثقافات حتى لو كان ذلك عن طريق التصادم بينها من أجل التطوير وتبادل التجارب على عكس الصدامات الأخرى. مصدر الصدام في التاريخ المعماري هو أن للأشياء طبائع وجوهراً، وغالباً ما يكون هذا الجوهر مرتبطاً بالسنن الكونية للخلق ومقدرة المجموعات البشرية المختلفة على اكتشاف والتعامل مع جوهر وطبائع الأشياء، وهو الذي يحدد تقدمها وتطورها، كما أنه يحدد هويتها من خلال ما تضفيه هذه المجموعة البشرية على الأشياء من خصوصيتها. أي أن الأشكال بمظهرها البصري وحرفيتها التصنيعية هي منتج ثقافي مرتبط بمقدرة حضارة ما على فهم جوهر الأشياء، وتوظيفه لإنتاج هذه الأشياء بمهارة وخصوصية عالية. السؤال الجوهري في فهم التاريخ هو "كيف استطاعت مجموعة بشرية اكتشاف هذا الجوهر ولماذا؟ أين ومتى؟ وكيف انتقل هذا الاكتشاف إلى المجموعات البشرية الأخرى لتتشكل الحضارات الإنسانية المختلفة. فكرة الصدام قائمة في حقيقة الأمر على هذا "التنازع" حول المعرفة والقدرة على تطويع "طبائع الأشياء" وجوهرها من أجل صنع حضارة إنسانية محددة. على أن الصدام الحضاري يبدأ عندما تصل أي حضارة أي مرحلة استفزاز الآخر وإثارة انتباهه، وغالباً ما يكون هذا الصدام قائماً على فرض "الهوية" التي تعني بالنسبة للبعض "القوة" و"الهيمنة". العمارة تعتبر "قوة ناعمة" تمهد الطريق إلى "الهيمنة الثقافية" والصدام على مستوى القوى الناعمة عبر التاريخ تمثل في عملية "التثاقف" Acculturation التي تعني انتقال الأفكار والقيم والأشكال المرتبطة بها من ثقافة إلى أخرى وتكييفها حسب الحاجة ودمجها في الثقافات الجديدة، لكن مع الوقت يتحول هذا الصدام إلى نزاع حول الهيمنة، وينتقل إلى صدام "غير ناعم" يعيد تشكيل خارطة القوى الحضارية. في الحقيقة حاولت أن أتناقش مع طلابي حول مفهوم مختلف للعمارة وتاريخها خارج "الحكاية التاريخية والسرد الزمني" وكيف أن هذا التاريخ هو "صدام أفكار" وليس حكايات مبانٍ. من يعتقد أن النزاعات التي تحيط بنا هذه الأيام هي بعيدة عن صدام "القوى الناعمة" أو أنها ليست لها علاقة بصدام الأفكار فقد جانبه الصواب. في كل تحول حضاري ومع كل بناء جديد للمجتمع تظهر هذه النزاعات وتتشكل هذه الصدامات لتخلق ثقافة جديدة، وهذه الثقافة هي المحرك للصدام مع الآخر على مستوى الأفكار وفهم طبائع الأشياء وجوهرها، وعلى مستوى النزاع والصدام المباشر الذي يحدد أسباب وجودنا. فهم التاريخ على أنه قائم على "الصراع" هو فكرة "ماركسية" قريبة من الواقع، فالصراع هو جزء من السنن الكونية التي قامت الحضارة الإنسانية عليها، لكن هذا الصراع ليس بالضرورة أن يكون صراعاً مسلحاً بل يمكن أن يكون صراعاً ثقافياً، وفي اعتقادي هو الصراع الأهم. صراع الأفكار وتصادمها وتطورها هي التي تدفع الحضارة الإنسانية إلى التطور، ودراسة التاريخ من أجل فهم "تراكم" الأفكار وتحولاتها وانتقالها عبر الحضارات المختلفة والمنتجات التي خلفتها وراءها وطبيعة الإنسان التي تتوق إلى خلق الجديد وتحدي القديم هي التي تجعل "الحضارة"، أي حضارة غير مستقرة وفي حالة تحدٍ دائم؛ لأن السكون مجرد السكون لبرهة يعني أن هناك حضارة أخرى ستسبق وستهيمن وستبث أفكارها وقيمها.