مباشرة بعد ندوة شنغهاي من 28/6 الى 1/7/2004 نظمت جامعة هواز هونغ للتكنولوجيا والعلوم في مقاطعة يوهان الصينية بالتعاون مع مجلس البحث في القيم والفلسفة في واشنطن ندوة علمية يومي 3 و4/7/2004 موضوعها "الروح القومية والعولمة" بهدف تحفيز الروح القومية استكمالاً للبحث في موضوع ندوة شانغهاي التي خصصت لدراسة "العلاقة بين الموروث الثقافي والتقدم الاجتماعي" بوجود المدعوين. الندوتان تتصلان بهموم النهضة الصينية في مرحلتها الحالية التي يمكن ان تعد رابعة المراحل في تصويب خط التحديث والاستعداد للدور العالمي المستقل لحضارة شرقية بدأت تسترد اعتدادها بالنفس. فالمرحلة الأولى تمثلها محاولات الإحياء في الشكل التقليدي بعد الصدمة بالغرب الحديث الذي انحرف عن العالم الإسلامي ليحقق الهيمنة على ما وراءه بعد فشل كل محاولات اخضاعه المباشر رمز إليها بحروب المرافئ التجارية وحرب الأفيون. والمرحلة الثانية تمثلها محاولات تقليد البعث الياباني التي انتهت بفشل التحديث ونجاح التوحيد حرب التوحيد والتحرير من الهيمنة اليابانية. والمرحلة الثالثة تمثلها الثورة التي بدأت بالمسيرة الكبرى وانتهت بالثورة الثقافية التي كان فشلها ايذاناً ببدء المرحلة الرابعة في إرهاصات تقدمت على سقوط مركز القطب الاشتراكي نهاية الاشتراكية الإيديولوجية في الصين تقدمت على نهايتها السياسية في الاتحاد السوفياتي. لذلك، فالمرحلة الرابعة الحالية التي تعود بدايتها الى فشل الثورة الثقافية شرعت الآن في تحسس مقومات المرحلة الخامسة التي ستسعى فيها الصين سعياً مقصوداً وحثيثاً لاستعادة دورها الحضاري الكوني من حيث هي ثقافة ذات خصوصية تعمل بمعايير الغزو العولمي وأدواته. حددت ورقة الندوة الإعدادية هدفين صريحين يمكنان من تحديد العلاقة بين الروح القومية اصلاً للقيام الذاتي والعولمة مناخاً وبيئة لنوع هذا القيام الممكن من الصمود والنجاح في المعترك الدولي فيعدان منطلقاً لهدف ثالث مسكوت عنه في الورقة: 1- محاولة تعريف الروح القومية او الهوية الثقافية من حيث هي مبدأ قيام فاعل لا ينحصر دوره في تحقيق التمايز بين الأمم وتثبيته، بل يتجاوز ذلك الى الطموح الرسالي. 2- محاولة تعيين السبل التي يمكن ان تساعد على تحفيز الروح القومية لإعداد المستقبل من خلال القيام بتلك المهمة، مهمة القيام الذاتي الفاعل. 3- الهدف الثالث هو ثمرة العلاقة الوطيدة بين الهدفين، إذ ان الهدف الأول وسيلة الهدف الثاني والهدف الثاني علته الغائية من اجل هدف ثالث مسكوت عنه هو كيف يمكن الصين التي ضمنت البعث المادي ان تحقق شروط الرسالة الحضارية. وبين ان كلا الهدفين والعلاقة الوطيدة بينهما يدلان على نقلة نوعية في وعي الصينيين الحضاري وعلى طبيعة الرسالة التي تنسبها نخب الصين الحالي الى حضارتهم في المستقبل بعد ضمان كل شروط الأسباب المادية لهذه الرسالة. لذلك حق لنا ان نسأل: 1- اين تعريف دور الشعوب التاريخي بالروح القومية حالياً من التحليل الماركسي لدور الطبقات بالصراع من اجل المصالح المادية والمنازل الاجتماعية سابقاً؟ 2- وأين تحديد المعترك الدولي بمعيار الهويات الثقافية حالياً بتحديده بالتضامن بين الشعوب النامية بحسب منطق الاشتراكية والمادية الجدلية؟ والآن بعد ان باتت الصين مالكة وسائل طموحها الكوني، فإن مثل هذا التحول في فكر نخبها يمكن ان يكون نذير شر بالنسبة الى البشرية كلها فضلاً عن كل مسلمي آسيا الذين يتهددهم الغزو الصيني. ذلك ان امة تمثل بعديدها خمس البشرية وستكون بعدّتها عما قريب اولى قوات البشرية العظمى لا يمكن ألا ان تخيف دعاوى نخبها التي من هذا الجنس. فعدوى تصورات من جنس "الروح القومية" يمكن ان تحصل. لذلك فلا عجب ان يكون مضمون ورقتنا متصلاً بنقد هذا البعد من المسألة بعد عرض مقوماتها التاريخية والفلسفية. حاولنا ان نجيب عن سؤالين ينطلقان من ضرورة عدم تحويل ماضي التاريخ الإنساني، ماضيه الذي لا يخلو من مؤيدات الحرب الأهلية البشرية الى مثال اعلى لمستقبله لئلا نحول دون التقدم الخلقي الذي هو الهدف الرئيس من التنافس بين الأشكال الحضارية على الأقل من المنظور الإسلامي. فاتحاد مكان المعمورة وزمانها لم يجعل وباء الدواجن او النزلة غير النمطية يتجاوز الحدود الجغرافية فحسب بل ان اكبر امراض العصر هو انفتاح الغزو الثقافي، خصوصاً إذا استند الى فكرة الروح القومية والصدام الحضاري. وهذان السؤالان يقبلان الصوغ الآتي: الأول: ما دلالة تصور الروح القومية The meaning of the National Spirit في تاريخ بناء الحضارة البشرية ودوره في نشأة التصورات السلبية التي تجعل التاريخ الإنساني محكوماً بحرب البقاء للأقوى بدل الأخوة البشرية؟ الثاني: كيف يكون ثنائي الهوية الثقافية والكونية Cultural Identity vs. Universality من منظور الثقافة المستندة الى الأخوة الإسلامية بديلاً من ثنائي الروح القومية والعولمة National Spirit vs. Globalization من منظور الثقافة المستندة الى فلسفة الاصطفاء الطبيعي، بديلاً يحرر البشرية من الحرب الأهلية العالمية؟ وهذه الحرب الأهلية البشرية نراها تحث الخطى بادئة بانتقال عدوى امراض الحضارة الغربية في عصرها الإيديولوجي الشمولي المنقضي بمفعول الأصوليات الدينية والقومية كما يحدث عند عملاقي الشرق المقبلين الهند التي باتت موطن الأصولية الهندوسيةوالصين التي قد تصبح معين الأصولية البوذية وعملاقي الغرب المقبلين اوروبا الموحدة التي تغلق الباب امام تركيا بحجة دينية وروسيا التي تسعى لتوحيد الأرثوذوكسية المحيطين بدار الإسلام احاطة ينبغي ان تذكره بهيمنتها المقبلة الممكنة خلال سعيه للتحرر من هيمنة اميركا وإسرائيل الحاصلة لئلا تشغله الحرب الجارية عن الحرب التي قد تجري. يعلم كل مؤرخي الفكر الغربي الحديث ان فكرة الروح القومية تسمية جديدة لفكرة روح الشعب بمعناها في فلسفة التاريخ الهيغلية ويعلمون علاقتها بمآسي التاريخ الغربي الحديث في علاقته بالآخر وفي تبريراته للسلوك الاستعماري والهيمنة العالمية وقدرة هذه الفكرة على العدوى كما في كل النزعات القومية الفاشية التي قضت عندنا على وحدة الأمة فبات التركي والفارسي والكردي والبربري والعربي في حرب اهلية لا نهاية لها ومن ثم ادوات بيد المستعمر يفعل بنا ما يشاء. لكن ما يتجاهله المؤرخون هو جذور هذه الفكرة الدينية والفلسفية. وما يهمنا في البحث هو ما يتجاهله المثقفون المسلمون. فالنقد القرآني للتحريف لا يستهدف شيئاً آخر غير العقيدتين اللتين يستند إليهما هذا التصور في صيغته التوراتية التي تضاعفت بعد نشأة التوراتية المحدثة او ما يسمى بالإصلاح الديني في الفكر الغربي الحديث. ذلك ان اسطورة الشعب المختار لم تبق تحريفاً للفكر الديني وحده بل اضافت إليه تحريف الفكر الفلسفي. وقد اكتملت حقيقة التحريفين حتى صارت بينة لكل عاقل في المسيحية الصهيونية التي تجمع الشكلين الديني والفلسفي كما تعينا في النازية والصهيونية بحسب ما نراهما يعملان في ما اطلقت عليه التوراتية المحدثة اسم فتح الأرض الموعودة الجديدة واسترداد الأرض الموعودة القديمة ولو بإفناء شعبيهما: الولاياتالمتحدة الأميركية في علاقتها بالهنود الحمر وإسرائيل في علاقتها بالفلسطينيين. وما يخشاه المرء هو ان يصبح النكوص الذي تمر به الثورة الصينية من هذا الجنس فيلتقي الشرق الأقصى الصين بالغرب الأقصى اميركا على الشرق الأدنى العالم الإسلامي والغرب الأدنى الغرب القاري بخاصة والتعداد السكاني وتناقص الموارد في نهايات التاريخ البشري سيجعل الصراع في المغربين والمشرقين يعود الى ما كان عليه في بداياته: صراع من اجل الماء والهواء بأدوات الإفناء الجماعي بدل حروب القبائل البدوية على الغذاء والكلاء بالنبال والسيوف: الأولى هي عقيدة تعين الحقيقة في روح شعب يكون مختاراً في لحظة زعمه ان المطلق قد تعين فيه بكل اشكال التعين مع التركيز على ضربي تعين العقل في التصور الهيغلي: 1- التعين في الوجود الرمزي والمعاني او تعبيرات ما يسميه هيغل بالروح المطلق الفن والدين والفلسفة. 2- التعين في الوجود المادي والمؤسسات المؤسسات السياسية والقانونية والدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأخلاق الموضوعية ومؤسسات التعبير الفني والديني. الثانية هي المنطق الجدلي الذي هو في نسبته الى فلسفة التاريخ الحضاري هيغل من جنس الصراع من اجل بقاء الأصلح في نسبته الى فلسفة التاريخ الطبيعي داروين. ذلك ان تحول التصورات ادناها الى اعلاها في المنطق الجدلي الهيغلي هو عينه تحول الأنواع ادناها الى أعلاها في تطور الأنواع الداروينية ما يعني ان نظرية الحرب الكونية العامة في الوجود تقدم اساسها النظري في فلسفة التاريخ الحضاري على تأسيسها في فلسفة التاريخ الطبيعي. ثم انقلبت العلاقة فباتت الداروينية الأساس النظري لتطبيقها على الظاهرات الاجتماعية والحضارية بدءاً بالحرب الاقتصادية او حرية الغزو الاقتصادي واختتاماً بالحرب الثقافية او حرية الغزو الحضاري. وما فلسفات نهاية التاريخ وصدام الحضارات إلا من علامات الشمولية المرضية التي تسمى عولمة والتي هي ايديولوجية هاتين العقيدتين اللتين اصابتا الفكر البشري بعد ان افقدوه الثوابت الإيمانية بالتنوير الحداثي والثوابت العقلانية التنوير ما بعد الحداثي. ما نريد ان ننبه إليه هو ان التاريخ الحضاري يفقد كل معنى بمجرد ان يرد الى التاريخ الطبيعي حتى لو سلمنا بأن النظريات التي يعتمد عليها هذا التاريخ يمكن ان يؤيدها العلم تأييداً نسبياً كما هي حال كل النظريات. لكن الصراع حتى في التاريخ الطبيعي ليس هو الفانون الطبيعي الغالب ومن ثم فالتاريخ الطبيعي لا يحكمه تصور داروين إلا في حدود خدمة الغائية التي نفيت عن الأنواع في هذه النظرية اذا اخذت الأنواع نوعاً نوعاً لكنها اثبتت فيها عندما تؤخذ انواع الحياة جميعاً: فلماذا يبقى ما يكون مفيداً ليبقى على الأصلح تسليماً جدلياً بأن الأصلح يمكن ان يبقى إذا أفنى ما دونه صلاحاً وهو منه يقتات بخاصة وقد بيّن تبذير الثروات الطبيعية للإنسان ضرورة ان يكون راعياً لها قيماً عليها بدل ان يكون مفسداً لها ومتلاعباً بمصيرها بعد العلم أنه لا بقاء له من دونها؟ لذلك فإن العلم نفسه لا يثبت صحة الصراع في التاريخ الطبيعي فضلاً عن كون التاريخ الحضاري هو بالذات المستوى الوجودي الذي يقدم للعقل الإنساني فرصة تخليص التاريخ من القانون الطبيعي الأدني لتحقيق القانون الطبيعي الأسمى. وتلك هي العلة التي جعلت القرآن يعتبر الأديان ذات تطور تاريخي بآلية تعدد الشرائع على رغم كون كل الأديان واحدة بجوهر العقائد. فالقرآن الكريم بنفي اسطورة الشعب المختار والهوية المنغلقة الناتجة منها القبيلة العقدية ليعوضها بنظرية الاختيار الخلقي الذي هو مسؤولية شخصية لا جمعية. ويتولى تعويض عقيدة النسبية الحضارية المطلقة المؤيدة الى الصدام والحرب الأهلية باستثناء الحقيقة منها جاعلاً اياها فطرة إلهية فطرة الله التي فطر الناس عليها يشترك فيها جميع البشر وليست تربية حضارية يكتسبها المرء من تقاليد شعبه او من روح مزعومة يتعين فيها المطلق. ان نظرية الروح القومية ضميرها الأساسي هو نفي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، الفطرة التي هي اساس الكونية القيمية والأخوة البشرية من اجل تعويضها بالعولمة التي هي فرض خصوصية قومية على الشعوب الأخرى بالقوة المادية الاقتصاد والحرب العسكرية والرمزية الثقافة والحرب النفسية. اما نظرية وحدة الحقيقة وتعدد تجارب تحقيقها في التاريخ من اجل التنافس على الخيرات او التدافع، فإنها مقصودة لتكون شرط التعارف بين الشعوب والقبائل بمعناها المفتوح والساعي الى تحقيق الأخوة البشرية غاية للتاريخ الحضاري. وهكذا فإن البشرية ليست امام خيار بين العولمة والروح القومية لأن هذين التصورين متضايفان. كلاهما يفترض الآخر ومن ثم فهما لا يمثلان خياراً بين حلين بل وجهان للحل نفسه: حل التاريخ الحضاري المردود الى التاريخ الطبيعي. الروح القومية تؤدي الى العولمة القهرية بمقتضى تصور روح من الأرواح القومية حيازته للحقيقة كما تفعل اسرائيل والولاياتالمتحدة الأميركية اللتان تسعيان لفرض النموذج المستمد من اجتماع نظرية الشعب المختار الدينية الصهيونية ونظرية شعب الله المختار الفلسفية النازية في الصهيونية المسيحية اسرائيل التي تأسست على العودة الى الشكل البدائي من المسيحية: المشاعية في الكيبوتز والمسيحية الصهيونية اميركا التي تأسست على العودة الى عقلية القبلية التوراتية التي غزت اميركا. * كاتب تونسي. استاذ في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.