لقد أدرك الملك عبدالعزيز أنه ليس هنالك حل لمشكلات الجزيرة العربية إلا عن طريق فرض الوحدة وبناء مجتمع متجانس يقوم على العقيدة الإسلامية، تتقارب فيه القيم والمبادئ والتقاليد، ولذلك جاءت الوحدة في أوانها رداً على واقع اجتماعي كان غارقاً في دروب الفتنة والاحتراب.. نقف في كل عام في تذكر متجدد لهذه المناسبة التاريخية العظيمة، نتحدث عن الملك عبدالعزيز.. نتحدث عن الرجل الذي صنع معجزة الوحدة.. فليلة الخامس عشر من يناير 1902م لها دلالة كبيرة في التاريخ العربي الحديث، ففيها بدأ الملك عبدالعزيز مجهوده الجبار بتوحيد الجزيرة العربية تحت قيادة سياسية واحدة. ولم يكن التوحيد أمراً سهلاً بل كان عملاً مضنياً، استغرق ثلاثين عاماً من العام 1902م إلى حين إعلان قيام المملكة العربية السعودية في سبتمبر 1932م.. فقد كان الملك عبدالعزيز بالإضافة إلى عبقريته العسكرية المعروفة ذا حس سياسي خارق، إذ إنه لم يتوقف عند مجرد التوحيد بل توجه فوراً إلى تثبيت كيان الدولة تحت قيادة سياسية واحدة، بحيث تصير لها وحدة حضارية تواصل بها الرسالة التي قامت بها الجزيرة العربية قديماً في حياة البشرية. لقد أدرك الملك عبدالعزيز أنه ليس هنالك حل لمشكلات الجزيرة العربية إلا عن طريق فرض الوحدة وبناء مجتمع متجانس يقوم على العقيدة الإسلامية، تتقارب فيه القيم والمبادئ والتقاليد، ولذلك جاءت الوحدة في أوانها رداً على واقع اجتماعي كان غارقاً في دروب الفتنة والاحتراب. فقد كانت الجزيرة العربية شتاتاً متنافراً، ولم يكن في وسع الجزيرة العربية أن تحتفظ بحالة استقرار وتوازن إلا بعد التوحيد الذي أفسح المجال لوحدة سياسية أزالت تدريجياً ظروف الشتات، وأسفر عن ظهور واقع جديد. فلأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية تتهيأ الظروف التي تساعد على قيام وحدة سياسية ثابتة، وقد أجمع المؤرخون على أن الوحدة التي شهدتها الجزيرة العربية تكاد أن تكون غير ممكنة بتقدير الله إلا بوجود شخصية الملك عبدالعزيز.. فقد كان هاجس الوحدة يلح على الملك عبدالعزيز، وكان ينادي بها كلما وجد فرصة لذلك، وهذا طابع السياسي الأريب الذي لا ينظر إلى مصلحته الشخصية. يقول موريس جورنو: إذا كان الملك عبدالعزيز قد نجح في لم شعث الجزيرة العربية تحت لوائه، وجعل من بلد مضطرب البلد الأكثر أمناً في العالم، فمرد ذلك ليس إلى القوة فحسب بل إلى أنه سكب في أعماق الأمة الناشئة أقوى عوامل التراص والتماسك. ويقول جان بول مانيه: لقد خلّف الملك عبدالعزيز مملكة شاسعة تعادل مساحتها نصف مساحة أوروبا، وبلداً يعتبر الثالث في العالم في إنتاج البترول، وكان في الوقت نفسه الزعيم المرموق في العالم العربي، لقد استطاع الملك عبدالعزيز في خضم القرن العشرين أن يفجر من غمار الرمال أمة جديدة. فقد كان بين يدي الملك عبدالعزيز منهج يستمد منه تصوره السليم للوحدة والقوة والتاريخ، وبمقتضى هذا الفهم وظف الملك عبدالعزيز تلك المرتكزات في نهضته الكبرى، وكان بداية مهمة لحركة تغيير اجتماعي قاد إلى تأصيل سياسي وتشريعي لم تتغير مظاهره بل ظل يتطور في نفس المنحى العام الذي رسمه الملك عبدالعزيز. فقد اتحدت وتفاعلت عناصر التاريخ والعقيدة والجغرافيا لتفسح المجال لوحدة سياسية ثابتة، تقوم على الإنسان والتاريخ والعقيدة ميزتنا عن سائر القوى الأخرى كقوة إقليمية تبسط نفوذها على رقعة جغرافية واسعة تمتد من الركن الجنوبي الغربي لآسيا شمالاً إلى وادي الفرات ودجلة وإلى الشام الكبير ومن النصف الشمالي لإفريقيا يتوغل وسطها إلى قريب من خط الإستواء إلى آسيا الصغرى والقرن الإفريقي وإلى أعماق إفريقيا، هذا الانتشار العقدي والتاريخي والجغرافي الشاسع يمثل عمقنا الإقليمي والاستراتيجي. دواعي التنوع لدينا كثيرة وقوية جداً، تتشكل في قوتنا الروحية وثقلنا الاقتصادي ونفوذنا السياسي وموقعنا الجغرافي والاستراتيجي ومكانتنا القيادية في العالمين العربي والإسلامي وحضورنا الإقليمي والعالمي. إنها الإرادة الخلاقة التي وضعتنا على الطريق الصحيحة، فكانت الوحدة نقلة نوعية في الزمن السعودي الحديث، ونقطة تاريخية مفصلية، وعنصراً مهماً من عناصر الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وهذا بلا شك يبرهن على مدى انسجام الوحدة مع مجريات الحياة الحقيقية وتحولها إلى واقع جديد.. فعندما نقف على واقع الوحدة ندرك حجم النقلة النوعية التي قامت بها الوحدة، والتي أسست لنهج حضاري جديد على قواعد منهجية وموضوعية. واليوم المجتمع السعودي مجتمع متوحد منسجم الوجدان تميز بطابع التآلف والتقارب والتعايش بأسلوب حضاري على قاعدة المواطنة، والتي تقوم على أساس الاحترام المتبادل لا فقط باحترام الإنسان في ذاته وإنما بالاحترام الطوعي كمفهوم مبدئي وقيمة أخلاقية، وترسيخ هذه القيمة لتصبح قناعة فاعلة والتقريب بين مكونات المجتمع ليكون مجتمعاً مفتوحاً على تنوعاته، يتمتع فيه الجميع بحقوق المواطنة، مستنداً على الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي الذي اتسم به المجتمع على طول تاريخه، فالتعايش والاستقرار يصنع أولى لبنات الفهم الصحيح لمعنى المواطنة، فعن هذا الطريق يرتبط الإنسان بالأرض ارتباطاً ذا معنى، ومن تبلور معنى المواطنة يتفرع مفهوم الوحدة الوطنية كنمط اجتماعي وحضاري يستوعب مكونات وتنوعات المجتمع ويضمن تحديد العلاقات على قاعدة المواطنة. إن أبلغ دعوة نوجهها إلى ضمائرنا هي أن الانحياز للوطن واجب عملي وأخلاقي وشرعي فلا مجال اليوم للمكوث في المنطقة الرمادية، فالوحدة الوطنية هي الثابت الوطني الحقيقي.