أمام مباهج الفرح التي ارتسمت على المحيا الشمالي خلال التهيؤ لزيارة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده -وفقهما الله إلى كل خير- وقفت متسائلاً عن النقلة الكبرى بين أول زيارة رسمية لملك من ملوك هذه البلاد، وبين هذه الزيارة، فحضرت لي أبيات «سلمان الفيفي»: كانت أبياتًا من الشَّعَرِ وسْطَ أمواج من الغَبَر قفرةً جرداءَ يابسةً ليس للعمران من أثَر. واستدرجتني الذكريات إلى ما قبل هذا، إلى ما كنت أسمعه -ولم أشهده- من حال هذه المنطقة، وغيرها من مناطق بلادنا المختلفة قبل أن يجمع شتاتها موحد هذه البلاد العظيم، ذلك الرجل الاستثنائي الذي لم يعطه التاريخ حقه، في رأيي، وهو رأي أؤمن به، ولا أفاوض عليه؛ بحكم أنني قارئ -لا بأس به- لتاريخ الخلافة القديمة (الأموية-العباسية) في أوج زهوها وأقول القديمة؛ لأن الحكم بعد منتصف العصر العباسي لا يختلف واعيان في أن أضراره كانت أكبر من منافعه. كانت الجزيرة في الخلافة الأموية والعباسية مسرحًا للدماء، ومحضنًا للفتك والتجويع والمآسي، ولم يكن ينقص الدولتان حينها ثراء ولا بسط نفوذ. وظل هذا حال الجزيرة العربية إلى ما قبل حكم مؤسس هذا الكيان. ولعل أجدادنا الذين لم يقرؤوا كتب التاريخ، أدركوا بتجاربهم المريرة ما أدركه، أو ما لم يدركه بعض كُتّاب التاريخ وقرائه.. نتذكر -صغارًا- كبار السن، وهم يرددون ببراءة ونقاء: «الله يعز ابن سعود»! هذه الدعوة التي تمتلئ بها قلوبهم، وتلهج بها ألسنتهم كان منبعها «الشعور بالأمن» الذي تحقق، وهو أمنٌ عزيز لم تشهده جزيرة العرب بعد الخلافة الراشدة، باستثناء عهد عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- ثم كان حلمًا عصيًّا... في ظل هذه الرؤية تتوالى أسئلة يبدو أنها سهلة، لكن الحق أنها عميقة، وهو عمق لا يمت للسؤال قدر انتسابه للإجابة التي ربما يغيب بعض وجوهها: كيف تحقق هذا الأمن في مسرح عراك وتطاحن، وهو مسرحٌ أبيٌّ على أن يسلم قياده طيلة تاريخه المدون لنا؟ وكيف تمكنت النهضة أن تحل محل الجهل والأمية والفرقة؟ من يستسهل الإجابة فيظن أن المال/اكتشاف البترول سببٌ في ذلك، فهل يغيب عنه أن المال حين يقع في من لا يحسن الإفادة منه يصبح نقمة؟ إن عقلاً مختلفًا واستثنائياً تمكن من لمِّ هذا الشتات! إن وعيًا جبّارًا تجاوز رؤى معاصريه وبيئته بمراحل، فصنع من جزيرة العرب المتناحرة دولة تمكنت من أن تُرسِّخ حضورها في مصاف الدول الكبرى ذات التأثير والنفوذ الممتدين. إن تلك القامة المختلفة التي نبتت في الصحراء، فتفوقت على الذهنية العربية، أدركت بذكاء فائق كيف تجمع حولها نخبة من مثقفي ذلك العصر، وتشركهم بالرأي، وتستضيء بوعيهم وبصيرتهم، وتدعم به طموحها في بناء حضاري انتشل جزيرة العرب من تاريخها الدموي الطويل. وحين يتحدث التاريخ عن حاشية السلطة في بلاطات السلاطين العرب، سيقف كل مؤرخ منصف؛ فيستبصر أن المحيطين ب «عبدالعزيز آل سعود» لم يكونوا حاشية بلاط، وإنما نخبة يعتد برأيها، وسيدرك أن ذلك العقل الاستثنائي كان يعمل بوعي ودهاء وحكمة، مؤجلاً كل حلول القوة التي يؤمن بها مجايلوه من زعماء العرب إلى حين استحالة غيرها، وإلى ما تضطره ظروف تأسيس كل دولة. إن عبدالعزيز لم يصنع دولة فحسب، إنما صنع وعيًا، وأسس سمتًا مختلفًا، امتد أثره إلى خارج جزيرة العرب. في كل مناسبة فاخرة كمناسبة اليوم يظل القوم يحتفلون بذلك المنجز وصانعه –وحُقَّ لهم- فيما أظل -مع نفسي- محتفلاً ب «عبدالعزيز آل سعود» الذي أجد أثره في كل منجزٍ ذي قيمة، مردداً: شكرًا أيها القائد الذي لا يخفت بهاؤك! * مدير مكتب مؤسسة اليمامة الصحفية بمنطقة الحدود الشمالية