في القديم كان الأعراب لا يطيقون حياة المدن، ولا يرضون أن يعيشوا فيها، وإنما يزورونها بشكل خاطف لبيع ما يفيض لديهم من إقط وسمن وماشية، وشراء ما يحتاجون إليه من تمر وبُرّ، ثم يعودون مسرعين للخيام وبيوت الشَّعر، والمراعي في سهوب الصحراء الواسعة، غير أنهم في جمرة القيظ يقتربون من المدن والقرى، وينصبون خيامهم حولها التماساً للماء، فيما يُسمّى (مقطان البدو)، ولا يكاد نجم سهيل يظهر حتى يتباشروا به؛ (لأنه دليل على انطفاء جمرة القيظ وانتهاء الحر الشديد، ويشدون بيوتهم المتنقلة على ظهور المطايا، ويحملون متاعهم القليل عادة، ويسوقون أنعامهم إلى الصمان أو الدهناء أو ما ابتغوا من فجاج الصحراء الواسعة.. وربما وقع بين شباب الحضر وشابات البادية حُبّ أثناء (مقطان البدو) ينتهي بزواج، أو فراق حزين يترك ندوباً في القلب، حين يرى المحب قافلة البدو تبتعد عن قريته ومعهم محبوبته، كالشاعر المبدع ابن سبيل الذي يقول: وش خانة المقطان لوقيل مااحلاه صيّور ماجاء بالليالي غدت بهْ يامل لقلبٍ من شديد العرب باه بوهة غريرٍ بالمظامي رمت به لا والله الا صار للبدو نوناه وثوّر عسام الجو مما عفت به والبيت هدّن الخدم زين مبناه طوّن ذراه وقينة الزمل جت به وشالوا على اللي بالمبارك امثناه ماحط فوق ظهورها زوعت به مظهورهم كن الطماميع تشعاه يتلى سلف خيال من قربت به ياقرب مسراحه وماابعد معشاه له شدةٍ راعي الغنم يشتمت به لو صوت الرجال ماتسمع انداه من لجة المرحول مايلتفت به مقطانهم امست خلين ركاياه تقنب سباعه والذوارى بنت به يوم استخالوا نوض برقٍ بمنشاه يذكر لهم من راح سيله بنتبه ياعيني اللي في نظرها مشقاه تاصل الى مشرافهم واشرفت به والعين سبر القلب والرجل مغزاه والى ومر قلبي لرجلي مشت به رِجلي على كثر التراديد مشهاه مامورتن والا انها مستعتبة قلبي ربيعه جية البدو ومناه!! ولا أحسب البيعات وش صرفت به العصر يوم ان القصر مالت فياياه ماكن راعية الحمر دوجت به يجر ثوب الجز وااعظم بلواه لو كان قلبي ممحلٍ ربعت به ياتل قلبي تلة الغرب لرشاه على زعازعٍ حايلٍ صدّرت به ومع أن حياة البدو انقرضت أو كادت، إلّا أن العرب - من بادية وحاضرة- ما زال كثير منهم يحب الصحراء ويعشق البر والنفود؛ لأن بيئة الصحراء نقيّة جدا، خالية من التلوث والضجيج والزحام، حتى إن أُمراء بني أمية وبني العباس كانوا كثيراً ما يخرجون للصحراء النقية إذا طاب الجو، وينصبون فيها الخيام الواسعة، ويقضون فيها أياماً وليالي سعيدين، وربما امتدت الإقامة شهورا، إذا كان هناك ربيع .. وكثير من المتقاعدين اليوم يفضلون النزوح من المدن الكبرى التي كانوا يعملون فيها ويسكنون، ويقيمون في مدنهم الصغيرة وقراهم التي على حدّ الصحراء التماساً للهدوء والسكينة، وأُنْساً بالبرّ وفضائه الواسع القريب، وبُعْداً عن زحام المدينة وما فيها من تلوث بصري وسمعي ودخان يملأ الفضاء من السيارات والمكيفات والمصانع، ما يستدعي الاهتمام بصحة البيئة في المدن، ومحاربة التلوث، وتشجيع الهجرة المعاكسة من المدن للأرياف لتقليل الزحام. وقد ورد في تاريخ الأدب أن معاوية بن أبي سفيان تزوج (ميسون البحدلية)، وكانت كل حياتها في البادية، وجمالها فائقا، فأسكنها في قصرا منيفا، وأكرمها وجعل الخدم يحفون بها، ولكنها رغم ذلك كله شقيت بحياة المدينة وحنّت للصحراء حنين الناقة لحوارها، وسمعها تنشد من قلب مجروح: لَبيتٌ تخفق الأرواح فيهِ أحبُ إليّ من قصر منيفِ ولبس عباءة وتقرّ عيني أحبُ إليّ من لبس الشفوف كسيرة في كسر بيتي أحبُ إليّ من أكل الرغيف وأصوات الرياح بكل فج أحبُ إليّ من نقر الدفوف وكلب ينبح الطراق دوني أحبُ إليّ من قط أليف وبكر يتبع الأظعان صعب أحبُ إليّ من بعل زفوف وخرق من بني عمي نحيف أحبُ إليّ من علج عنوف خشونة عيشتي في البدو أشهى إلي نفسي من العيش الطريف فما أبغي سوى وطني بديلا وما أبهاه من وطن شريف) وللشاعر عبدالرحمن العنقري - رحمه الله - يصف حبه للصحراء والبر والنفود: أحب شوف الصحاري وأبغض الديره ماني من اللي بوسط المدن قعادي البر هو منوتي مالي هوى غيره أحب شوف النفود وشوفة الوادي وأحب شوف الربيع إلى سجع طيره فيه أم سالم تجر الصوت وتنادي ينساح بالي ولو كثرت مشاويره هذا مناي وهواي وغاية أمرادي عبدالله الجعيثن