من الأمور المزعجة لكثيرٍ من أصحاب المواهب: انتقاد أعمالهم بجرأة ووضوح، وهذا الأمر هو ما يجعل العلاقة شديدة التوتر بين المبدع والناقد على مر العصور. فالمبدع يعتز كثيراً بإبداعه، كما لا يتقبّل ملاحظات الناقد بسهولة، بل ربما اتهمه بالحسد، والتحامل، والعداوة. والناقد في مقابل ذلك لا يستطيع التخلّي عن دوره، ويستمر في انتقاد عمل المبدع ومُطالبته بتعديل كل ما يعتقد بأنه خطأ أو اعوجاج أو قصور. ومن أبرز الأخطاء التي يقع فيها الناقد وتُساهم في زيادة انزعاج المبدع ورفضه للنقد: الانتقائية وتسليط الضوء على أسوأ ما في تجربته، وهذا الخطأ يرتكبه بعض نقاد الأدب عمداً، أو يقعون فيه بسبب تقصيرهم أو «كسلهم» وعدم حرصهم على الاطلاع اطلاعاً شاملاً على جميع جوانب تجربة الشاعر، فالاطلاع على قصيدةٍ رديئة لا يعني رداءة جميع قصائد الشاعر، ولا شك أن الحكم على جميع إنتاجه بناءً على مستوى هذه القصيدة سيكون حكماً قاصراً وظالماً ولا قيمة له في ميزان النقد الأدبي. وهناك العديد من الشواهد التي تُوضح حضور هذه المسألة، سواءً في نقد الشعر الفصيح أو نقد الشعر الشعبي، ومن ذلك ما روي من أنّ معاوية –رضي الله عنه- خاطب ابناً لأبي محجن الثقفي قائلاً: «أبوك الذي يقول: إذا مُت فادفني إلى جنب كرمةٍ تُروّي عظامي عند موتي عروقها فقال له ابن أبي محجن: «لو شئت لتذكّرت من شعره خيراً من هذا». قال معاوية: ما هو؟ فأورد له أبياتاً يقول أبوه في بعض مُستهلها: لا تسألي القوم عن مالي وكثرتِهِ وسائلي القومَ عن بأسي وعن خُلقي ففي هذا الشاهد يُطالب ابن أبي محجن معاوية بتوجيه النظر نحو اتجاهات أو مواضيع أخرى في تجربة والده الشعرية، ومن المؤكد أن ذلك سيمنحه ويمنح كل شخصٍ فرصةً أفضل للرؤية وللحكم عليها بدقة وبموضوعية. ويُمكن أن تكون قصة بيت «رصيف الشمس» هي الأوضح لاستدلالنا على مسألة انتقائية الناقد في ميدان الشعر الشعبي، فكثيرون يحكمون على تجربة الشاعر المبدع عناد المطيري –على سبيل المثال- حكماً جائراً، وينظرون لها سلبياً اتباعاً لآراء بعض الشعراء المعروفين في ذلك البيت، مع أن الواحد منهم لم يُكلّف نفسه عناء قراءة القصيدة التي وردت فيها هذه العبارة، فضلاً عن تكليفها بقراءة دواوين الشاعر التي تضمّ العديد من القصائد المميزة، وأجزم أن كثيراً من أولئك المتلقين لم يطلعوا على قصائده الرقيقة كقصيدته التي يقول في مستهلها: خذ راحتك ما غير أنا وأنت والليل والليل مامونٍ على سر الأحباب خل القلوب اللي عطاشا مغاليل تروي لهيب الشوق يوم القمر غاب أو غيرها من القصائد المنشورة على مدى عقود من الزمن. ولا يعني كل ما مضى من سطور أن نلزم الصمت أو أن نُغمض أعيننا عن أخطاء الشعراء وتقصيرهم، لكن الإنصاف يفرض على كل ناقدٍ عدم اختصار تجربة الشاعر المبدع في عبارةٍ، أو بيتٍ، أو قصيدةٍ واحدةٍ لا تُعجبه. Your browser does not support the video tag.