ربما كان هذا العنوان: «الوسطية في الفتوى» غريباً عند البعض، ذلك أن المطلوب وفي الفتوى: الحكم في المسألة بدليله. وربما ظن البعض -أيضاً- أن إطلاق هذا العنوان يأتي في سياق الكلام العريض عن الوسطية. لكن أنبه إلى أمرين يزول بهما الاستغراب، ويضع هذا الموضوع بعنوانه في سياقه الصحيح. الأمر الأول: أن الوسطية في الفتوى تتصل بسياسة الفتوى التي مقصدها الأول: الإصلاح والتقويم، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: (الفقيه كل الفقيه هو الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصي الله). الأمر الثاني: أن هذه الوسطية التي نؤكد على أهميتها في الفتوى؛ لا سيما في المسائل المستجدة؛ متقررة عند علماء الإسلام، وليست هي مصطلحاً أو لقباً سكيناه في عصرنا هذا، وهنا أنقل نقلاً مطولاً عن الشاطبي رحمه الله (ت: 790) وهو على طوله مهم جداً، يقول فيه: المفتي البالغ ذروة الاجتهاد هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين. ثم قال -وأيضاً- فإن الخروج عن الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً، لأن المستفتي إذا ذهب به إلى مذهب العنف والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك الآخرة، وهو مشاهد. وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة). إن الوسطية في الفتوى تتفق مع الفطرة الإنسانية، وتنطلق من الشريعة الإسلامية؛ التي راعت أن يكون الإنسان وسطاً في جميع أموره، فلا يذهب إلى جانب العنف، كما لا يذهب إلى جانب الانحلال. Your browser does not support the video tag.